بحجم الشمس




بدت الشمس من مشرقها كشقراء أرخت جدائلها الذهبية، وأثقل خطاها الخجل؛ معلنةً بدءَ صباحٍ ربيعي جميل من صباحات آذار التي تحنّت برائحة القيصوم والدحنون. وراح النّهار يَمُدّ ضياءَه كسيفِ فارسٍ انقشعت معَه آخر جنود الليل، فانتشر سناه لترقص الفراشات والعصافير طربًا مع نسيمُه الآذاري الاخّاذ. وفي أحد المنازل الريفيّة المنفردة على إحدى جوانب طريقٍ متعرج تحفُّ به نخلاتٍ قصار، قَبعت على جوانبه وكأنّها تَرفع للرائح والغادي تحيةَ شموخٍ وكبرياء. تسلّلت أشعتها الذهبية لتداعب أجفان يزن المترعة بالنّعاس، مُدغدغةً لها بدفءٍ رقيق ينمُّ عن بداية شروقها، ففتح إحدى أجفانه مستجيبًا لدغدغتها اللذيذة، ونظر في الغرفة، فإذا بسرير جدّه فارغا. فارتعش كعصفور يطرد عنه ما علق به من نعاس، ثُمّ قفز واقفًا: يا إلهي... لقد استيقظ جدّي قبل الشمس وغادر إلى الحقول.

دلف مسرعًا إلى المطبخ؛ ليعدّ إبريقًا من الشاي الذي أصبح روتينًا يوميًا من الصعب عليه كسرَ قواعده، فوضعه على الغاز وغادر إلى صنبور المياه فتوضأ واغتسل، وراح يفكر، بعد أن كَمش فاهه بيده: ماذا سأقول لجدّي؟ وكيفَ سأشرح له ما يلحَقُ بي من خزي حين يسألني: لماذا تأخرت في استيقاظك؟ ثمّ كيف سأثبت له أنني أصبحتُ رجلًا يمكن الاعتمادُ عليه وانا ما زلتُ أستيقظ بعد أن تغادر الشمس مهجعها إلى كبد السماء وقد قال لي مرارًا: اسبق الشمس إلى الحقول؟ آه لا بدَّ أنّهُ ممتعضٌ الآن، بدّد شروده الذهنيّ صوت أزيز الإبريق على الغاز، فوضعَ السُكّرَ والشاي وإلتقط الإبريق وخرج شاقًا قلبَ الحقول، باحثًا عن جدّه، ولم يكنُّ حتّى رآه، بحجم الشمس شامخًا كالنخلة، متكًأ على عنقِ التنين، الذي كان فاغرًا فاهه على مقبض عصاه الخشبيّ، شيخًا كبيرًا بلغَ من العمر ما يربو السبعين.

كانت ملامِحه الجادّة تضفي شيئًا مميزًا لحضورهِ، من الصعب على طفلٍ في ربيعه العاشر أن يدركَ كنهه، إلّا أنّه كانَ محبًّا له، عاشقًا للرائحةِ الزكية الّتي تُخَالج ضحكاته، والقسوة الرقيقة الّتي تخرُج مع كلماته، والدفء المكتنز في أعماقه، انّها صورةٌ مغروسةٌ بعمق في تقاطيع الحُبّ الذي يكتنف حياتَه لإنسانٍ يعشقه كما تعشقُ الأرضُ المطر ويهوى الحديث معه والتفكير في كلامه ونصائحه، أو تقليد نبرة صوته.

كان الجدّ يراقبُ العُمّال في الحقول حين بادره يزن بالسلامْ فردَّ بصوتٍ نديّ مفعمٍ بالربيع: صباح النّور يا يزن، كيف أصبحت؟ فردّ حانيًا رأسه خجلًا: بخير ولكن ... قاطع الجدُّ تردّد يزن طالبًا منه سكب الشاي في كأسه الزجاجي الكبير، وبعد أن أمسك الكأس، أحاط بمرفقه الفولاذي عنق يزن، ثُمّ قال: أتعلمُ يا ولدي، لقد قضيت في هذه الحقول أجمل أيّامَ حياتي، وانصرفت فيها كلُّ سنواتي، كانت سنواتٍ من الحبّ والرضى والصبرِ الجميل، لم أكن أُغادرُها، ولم أشاء يومًا ذلك، فمن الصعب أن تفكَّ ارتباطَك بالمكان الذي نشأت فيه. هي ذات الفقرة اليومية التي يدسُّ فيها الجدّ ليزن، جملةً من التصورات المتوارثة التي يخضع فيها الفرد لإملاءات التقاليد التي همس بها السابقون، حول ربط الارض حبًّا وتمسكًا بالعرض، وهذا واجبٌ لا مناصَ منه استنادا للقرويّة الّتي تحدَّر منها.

إنّي أعشق هذه الحقول عشقًا يسري في دمي فلقد أعطيتها كلَّ ما أملك من شبابي وقوّتي وبادلتني العطاء بمحصولها الوفير وحضنها الدافئ ثمّ رفع رأسه للأعلى قليلًا وقال: لا أعلم لمَ قُدِّر علينا أن نعشق الأماكن إلى هذا الحد من الهذيان ونحن نعلم انٍنا مغادرون احس يزن بغرابة اخر كلمات جده فليست ذات النبرة التي اعتاد عليها عندما كان الجد يحادثه شيء ما اشعل بداخله فتيل الضن فتناثرت الاسئلة تباعا لم يغاد الجد اذا كان يحب الحقل والى اين ذلك السؤال الذي ما إنفك يقاوم الابتلاع ويراوغه .

رشف الجدُّ الشاي ممزقًا تساؤلات يزن التي شغلته، فهزّ يزن رأسَه؛ لينفض عنه ما جال في خاطره، فوقعت عيناه على أوراق الشاي التي كانت تلتوي وتهبط إلى القعر شيئًا  فتستقر هناك، بعد أن ماجت مع حركة الكأس.

تابع الجدُّ: ولدي يزن اترى هذه الحقول المطرزة بالخضرة والمليئة بالعمال؟ شققتها بمعولي صخرةً صخرة وتناثرت حبّاتها على جسدي حتى نحتت منّي رجلًا صلبًا يعارك الحياة بصدرٍ عاريٍ ولا يتأثّرُ بحروبها، حتّى حولتني إلى كائنٍ لاهثٍ لا يتوقُ إلّا إلى العمل، ولا يحنُّ إلّا لحضنِ الأرض. بدت كلماتُ الجدّ كفراشةٍ تغادرُ المكان وتنثِر من كحل جناحيها سحرًا يقتاد الصبي طائعًا. جذب يزن اتكاء جدَّه الملفت على البوح على غير عادته فنظر إليه؛ ليشدّ إنتباهه توتّر أصابع يده إذ كانت تشدّ على عنق التنين المستلقي فوق مقبض العصى إلّا أن الجدّ ربت على كتفه قائلًا: أعلمُ حبّك للأرض، والّا فكيف لصبيّ مثلك أن يقارف الزراعة على صعوبتها بلا أن يهواها، ذلك القرب من الأرض من شأنه أن يُبرئك من آثامك، ويخلّصك من أوزارك. وكأنّ الجدُّ راح يبدّدُ هالة الطفولة، التي لم يشعر يزن في أكنافها بثقل التكليف ...إلى ما يرمي الجدّ وهو يكرر ذات الكلام الذي جعل يزن ملتزم بقناعاته؟ وقد جرت العادة في الأغلب الأعم أن يحتفي بالعمل صامتًا، ثمّ كيف يتغير جدّي في ليلة وضحاها؟

شعر يزن -على الرغم من رائحة العفوية التي تفوح منه- أن جدّه يعاني في إيصال لواعج قلبه وإلّا فلمَ يضغط على عنق التنين؟ طالت قلبَه مخاوفٌ جمّة، وحطّت عليه كسحابة سوداء، فاستقر في ذهن يزن أن امرًا ما يحيط بجده، فنظر إليه محدقًا متفحصًا، فإذا به يشدُّ على عنقِ التنين حتى ترتجف يده من فرط القوّة، وبدأت انفاسه تتحشرج في حنجرته بشكل مخيف، وعيناهُ تجحظ أكثر و بدأ يكمش صدرَه بيده قائلا: أ ا ا لأ رض ثمّ سقط كتمثالٍ على الأرض بلا حراك.

هجمَ على جدّه وراح يناديه صارخًا، إلّا أنّ العمّال التفوا عليه، فضاقت الدائرة لافضةً يزن خارجها. وما أن أدرك تمتمات العمال حتى سقط الواقع على رأسه، كمرساة استقرت في قلبه بكلتا خطافيها فأحسّ بأنّ إنفجارًا ما سيدركُ قلبَه، فركض بأقصى سرعته رافضًا الأرض، حتّى وصلَ عالي تلّة مشرفة على وادي فج؛ وصاح شاقًا صمته: جدي وأجهش بالبكاء، ارتطم الصوت بصخور الوادي رادًا صداه: جدّي... جدّي  .. حتّى توهّم يزن أن الحقل والعصافير كلّها كانت تبكي جدّه معه؛ لأنّها أحبته كما فعل، لم تمكنه سنواته العشر من إدراك الإنسحاب التكتيكيّ لجدّه؛ فتزاحمت الأفكارُ في دماغه ولفّته -كالسديم - بخوفٍ عميقٍ من حياةٍ لا تحوي "جدّي" فأخذ يتساءل: أتشرق شمسٌ بلاه ؟؟ تداعت أمامه الصور الشمس. والصباحات.. كأس الشاي.. الأوراق .. الأرض ... نعم الأرض، عِشقُ جدّي، الذي عاش من أجله ومات بين أحضانه. وقف يزن بقلبه المذبوح، وتذكّر كلِمات جدّه: للحزن أيّام وللفرح أيّامٌ اخرى أمّا العشق فله كلّ الأيام .

إنّه لمن الصعبِ أن يفقِد الكائِن الذي نشأ بين ذراعيه، وصبّت كلّ روافِده في روحه، فراحت كلمات جدّه تقرع كالطبول بداخله: "الصبرُ ترياق البلاء". أحسّ يزن بشرخٍ نازفٍ بلا هوادة وراح يَذكر أجمل اللحظات الّتي ساهم فيها الجدّ بنضوج تفكيره، ورُقِيّ مبادئه فقد كان موسوعةً لا تنضب. لملمَ يزن ما تبقى من أشلائه ونهض عازمًا على أن لا يقع في شراك الحزن. فنهض ماسحًا دموعَه بطرف كمّه، وفي عينيه أملُ جدّه بالأرض. انتفضَ وكأنّ شرارةً ما أصابته، ومشى بسرعةٍ قاصدًا المكان الذي وقف مع جدّه قبل أن يتداعى أمامه كالجبل، بحث طويلًا حتّى وجد من العصا الذي كان وجه التنين فاغرًا فاهَه في مقدمة مقبضه، فأمسكه ووقف، بحجم الشمس، شامخًا كالنّخلة، متكأ على عنق التنين.


هلا العقايلة

إرسال تعليق

0 تعليقات