في الصباح المعتاد كَكلّ صباح، فتحت عينَيّ محدقاً بسقف غرفتي ونهضت إلى المطبخ وعين مفتوحة والأخرى مغلقة من أثر النوم الطويل، قمت بوضع الماء على النار وذهبت لتشغيل الراديو وإذ بفيروز تُنير الصباح كالمعتاد، عُدت إلى المطبخ و بدأ الماء يغلي شيئاً فشيئاً، فقمت بوضع ملعقة سكر في الكأس وملعقتي قهوة وأخدت بتحريكها و بدأت تفور حتى سكبتها في الكوب خاصتي، جلست على الكرسيّ في حديقتي، طيفها ما يزال يتراقص أمامي، تفوح رائحة ياسمين و تدندن ألحاناً فيروزيّة، أدركتُ كم أنني تآكلتُ شوقاً لرؤيتها، أخذت هاتفي لأرسلَ رسالة إليها، شرعت أكتب سطوراً و أحذفها، بقيت على تلك الحال ساعات طوال، حتى وجدتُ نفسي قد أرسلتُ موجز الكلام: اشتقت لك، دعينا نلتقي في خطانا.
لم يَصلني ردّ، بَقيت مُدة دقيقة كاملة وَهي "جاري الكتابة" بدأ القلق يَسود المَكان، وخِفت من رَدّة الفعل لأنني لم أطلُب منها كهذا الطلب مِن قَبل وبعد دقيقة من "جاري الكتابة" إذ هي تَردّ علي بِكَلمة واحدة: أين؟ لم أعلم الكَمّ الهائل من السعادة الذي انتابني، وكأن قلبي بدأ يضخّ الحب في أوردتي وشراييني بدل الدَم ازدادت نبضاتي ما شعرت بهذا الشعور من قَبل.
_كنتُ جالسةً على سريري أقرأ كتاباً كنتَ قد أرسلته إلي بالبريد في ميلادي السابق، صدى إشعارُ رسائلكَ ثقب مسمعي و أصابني بالذهول، سكنت الرجفة يدي عندما قرأتُ اسمكَ (حبيبي) في أعلى الشاشة، ما عدت أدري كيف سأفتح رسالتكَ، فتحتها و وجدت فيها ما كتبته لي، كنتَ قد طلبت لقائي للمرة الأولى بعد طال لأعوام، هأنذا أتابع الخطوة تلو الأخرى بِكامل أنوثتي، تجهّزت لأذهبَ منكَ إليكَ، ارتديت فستاناً أحمرَ لأثير دهشتكَ، وضعتُ أحمر الشفاه و رسمتُ الكحلَ في عيني، و خرجتُ لألقاكَ يا قمري...
كان بيننا مليون قدمٍ، في الخطوة ثمانمئة و أربع و أربعين التقينا، قد أكل الدهر على حبنا و شرب. كنتُ قد اهترأت و تلف قلبي، مات الشعور و رفعت راية السلام، عانق ظلي القلق، و التوتر بلغ عظامي، إلى أن رأيتكَ بعد طول غياب، و كأنني أراكَ لأول مرة، و أغوص فيك و أحبكَ لأول مرة أيضاً، عيناي متعطشتان لكَ و ما إن رأيتك قد ساد الأمان فيّ، و القلق تخلى عن ظلّي عندما عانقه ظلك، شعرت بسعادة عظمى، و مشاعر لا توصف
_ها هو ذا، الخطوة بعد الخطوة تتلوها خطوة يقترب وهي أيضاً خطوة من بعد خطوة، التقيا في منتصف الطريق كان "الكوفيشوب فارغ، الزبائن الجالسين يعدون على الأصابع كانت هي بين الحين والآخر تردّ خُصلة شعرها التي تنسدل على عينها وهو أيضاً كان كل بُرهة ينهَزم بنظراته
_هذا انا يا سادة أنا الطرف الثالث الذي يجلس معكم على هذه الطاولة أُدعى الأوكسيتوسين وأنا الهرمون الذي جمعكما هنا على طاولة واحدة يبعد كل منكما عن الآخر مسافة عشرين سنتيميتراً، بدأت صديقاتي الهرمونات تعمل عملها، تشعل شموعًا من القلق والخوف وتصب كأسين من التوتر والصمت يَسود المكان، مع كلّ نظرة إعجاب تتداول بينكما أزداد أنا كهرمونٍ في جسديكما، أجلس في دماغ كلّ منكما على حدة تحت المهاد تماماً، أعطيك جرعاتٍ من الحبّ، و أزوّدها هي بجرعتين، ليكبر ما يجري بينكما و يكسو العشقُ خلاياكما، دائماً ما يميل هرمون السيروتونين إليّ، ممسكاً يدي ليمدكما بالسعادة، يحفّز عاطفتكما برهابة، و ينشرُ الفرحَ في الأجواء، لأعلمكما سرّاً، أنا المسؤول عن رجفة أيديكما و قشعريرة جسديكما، أنا من يضرب الطبول في صدريكما، و يرفعُ صوت الكمان من حولكما، أنا من يقرع أجراس الخطر و الحرارة عند الاقتراب بضع سنتيمترات حتى، التي تشعل الرغبة بأعواد الحبّ، و أوسّع حدقة العين، و أرشّ البريق فيها، أطليها باللمعان أبقى أدسّ الأوكسيتوسين في أوردتكما إلى أن تصابا بإدمان الحب.
_أتظاهر بشرب الماء برفع الكأس كي أختلس النظر إلى عينيها المجلجلتين تحوطها برباط كحل أسود، أريد قول كلمة أحبك لكنني مترددٌ ومتوتر، تراني أقولها في داخلي تسع مرات كي أقولها لها جهراً في المرة العاشرة وأخطئ بالعد وأعود من جديد، توتري يزداد وطقطقة أصابعي تزداد، وكأنها أجراس كنيسة، ها قد وصلت إلى الرقم تسعة هيا هيا معركة ملحمية بين قلبي ولساني والصمت يسود المكان، وفوجئت بكلمة تسللت من بين شفتي بسلاسة دون علمي، نعم بعد صراعٍ ومعركة ملحمية استطعت نطقها أحبك...
_أنا الطرف الثالث، استمررتُ بضخّ الحبّ فيك، و ما زلت أزيدكَ توتراً و قلقاً و رجفةً، و أرفع دقات قلبكَ لتصبح مليوناً في الدقيقة، و أجعلك مهووساً تتكلم بينكَ و بين نفسكَ، كانت هي تتمعن فيكَ بكلّ حبّ و التوتر يعلوكَ، تلتهمُ تفاصيلَك المربكة بعينيها، و أنا أزيد ضربات قلبها و قلبكَ لا أكثر، عندما أخبرتها بأجملِ أربع أحرفٍ على الإطلاق تعرّق جبينها، و اشتعلت النار في جوفها، و صوت أنفاسها يترنم في مسامعكَ حتّى، احمرّ وجهها فخفضته و هي تلعب بخصلة شعرها مغمضة عينيها رهبةً من كثرة العاطفة التي وضعتها في الموقف.
كلّ هذا أنا فاعلة له، ساد السكون عدة دقائق، إلى أن أخبرَتْكَ بضرورة رحيلها، مدّت يدها إليكَ لتصافحكَ مودعةً إياك، شددت يدها لتقبّل وجنتها الحمراء و تهمس لها وداعاً أميرتي، ردت فعلكَ تلكَ أنا ألهمتكَ إياها في لحظاتٍ مفاجئة كهذه، و أخيراً عندَ افتراق طريقيكما، سأبدأ أنا هرمون الحبّ بالانخفاض بشكلٍ مفاجئ و بكميّاتٍ كبيرة، و ينسحبُ تكتيكياً هرمون السعادة برفقتي، هنا تبدأ حاجة المدمن للحبّ، تشحب ملامح وجهيكما، ستنعزلان عن العالم تسكنان زاوية خاصّة بكما، و يكسو القلق ما بقي منكما، و تحلّ بعض الهرمونات محلّ دواء تعطيكما جرعةً من الذكرى كلّ حينٍ و آخر لكيلا تقتلكما الكآبة، هنا انتهى عملي أنا ، ما بيدي حيلة سوى أن أرسلَ بعضاً من السيرسيون مع صورِ الذاكرة بمثابةِ علاج الإدمان، إلى أن أعود معلنةً قدومي بلقاءٍ آخر .
───────
بقلم إيمان أسامة رفاعي

0 تعليقات