صَدِيقِي الْأَبَدِيُّ










عِنْدَمَا اسْتَيْقَظَتُ ذَاك الصَّبَاحَ لَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ الْأَحْدَاثَ الَّتِي سَأمِرُّ بِهَا هَذَا الْيَوْمَ ستظلُّ قابعةً فِي رَأْسِي، وَأَنَّه سَيَدْخُلُ حَيَاتِي شَخْصٌ عَنْ طَرِيقِ الصُّدفةِ، يُشَارِكَنِي أَحْلاَمِي وشغفي بِالْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة.





كَالْعَادَة اسْتَيْقَظَتُ قَبْلَ الْمُنَبِّهِ، فَعِنْدَمَا يتحمَّسُ الشَّخْصُ لِرِحْلَةٍ مَا أَوْ لِمَكَانٍ سيقصدهُ مَعَ أَشْخَاصٍ يُحِبُّهُم، سيتعذَّرُ عَلَيْهِ النَّوْمُ، وسيستيقظُ قَبْلَ الْمَوْعِد.





بَدَأْتُ بتحضير نَفْسِي لِهَذَا "المشوار" الَّذِي انْتَظَرْنَاهُ أَنَا وأقاربي، وجهَّزتُ أغراضي، وتأكَّدتُ أنَّنِي لَمْ أَنْسَ أَيَّ شَيْءٍ، فَالطَّرِيقُ إلَى "فاريا" طَوِيلَة، وَالْمَكَانُ بَعِيدٌ، فَكَان عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مَعَنَا مَا يَلْزَمُنَا.





تَجْمَّعْنَا فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَةِ، وَانْتَظَرْنَا إلَى أَنْ حَضَرَ الجَمِيعُ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا وَبَدَأَت رحلتُنا، كُنَّا قَد اتَّفَقْنَا لَحْظَة لِقَائِنَا أَنَّ هَذَا النَّهارَ هُو للتَّسليةِ ولنقضيَ الْوَقْتَ سَوِيَّاً.





 تناولْنا فطورَنا فِي فَرَن كَبِيرٍ ثُمَّ أكملْنا طريقَنا، وَخِلَالَ الْوَقْتِ الَّذِي يفصلنا عَن وِجِهَتِنَا كُنَّا نتجاذبُ أَطْرَافَ الحَدِيثِ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَخْطِرُ فِي بَالِنا، ونضحكُ عَلَى أَيِّ شَي فَقَد اعْتَدْنَا -أَنَا وَبَنَات عائلتي- أَنْ نَقْضِيَ أَوْقَاتاً مُمتعَةً مَهْمَا كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي نَقْصِدُهُ.





خِلَالَ الطَّرِيقِ حَصَلَ سُوءُ تَفَاهُمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ شابَّينِ يتقدَّماننا بمقعدين، وَبَعْدَ وصولِنا إلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، أَخَذْنَا نلتقطُ الصُّوَرَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي ترتدي لِبَاسَ السَّلَامِ النَّاصعِ الْبَيَاضِ، جَلَسْنَا لنلعبَ الْوَرَقَ ونحتسيَ شَرَاباً يُعْطِينَا الطَّاقَةَ عَلَى تَحَمُّلِ الْبَرْدِ فِي تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ، وَبَعْدَ وَقْت قَلِيل،ٍ اِقْتَرَب الشابَّانِ مِنَّا وحاولا الِاسْتِفْسَارَ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ، وَتَمَّ الِاعْتِذَارُ عَمَّا بَدَرَ مِنْهمُا، وبدورِنا َأَنَا وأقاربي اعتذرْنا وَانْتَهَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ.





وَمَرَّ الْوَقْتُ سَرِيعاً، وَلَمْ نَشْعُرْ بِالْوَقْتِ إلَّا وَقَدْ حَانَ مَوْعِدُ ذهابِنا إلَى الْمَطْعَمِ لِتَنَاوُل طَعَامِ الغَدَاءِ، وَانْطَلَقْنَا مِنْ جَدِيدٍ وَذَهَبْنَا إلَى مطْعمٍ يَحْتَوِي عَلَى صالَةٍ كَبِيرَةٍ، وَبَدَأَتْ أَنْغَامُ الْمُوسِيقَى تَتَعَالَى، وَأَخَذَ بَعْضُ الشَّبَابِ والشابَّاتِ يتراقصونَ عَلَى أَنْغامِها وَكَان الصَّوْتُ يَخْتَرِقُ الْجُدْرَانَ، وَيُمْكِنُ سَمَاعُهُ مِنْ الْخَارِج،ِ وَ لَكِنْ مَا لفت نَظَري أَن شابّاً مِن الشابَّينِ اللذِينَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سُوءُ تَفَاهُمٍ يَبْدو أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَا يُرام، فَقَدْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَانْحَنَى نَحْو الطَّاوِلَة، ثُمّ تَحَرَّكَ مِنْ مَكَانِهِ، وَكَانَ صديقاه يُمسكانِهِ مِنْ يَمِينِهِ وَمِنْ يَسَارِه، ويساعدانِهِ عَلَى الْمَشْي، فأحسسْتُ بِشَيْءٍ سَيِّءٍ سَيَحْصُل، وفجأةً مَا إنْ وَصَلَا إلَى بَابِ الْمَطْعَمِ حَتَّى سَقَطَ أَرْضاً، فَحَمَلَهُ الشَّبَابُ وتوجَّهوا نَحْوَ الباصِ، فانتفضتُ مِنْ مَكَانِي وَرَكَضَتُ مُتَوَجِّهَةً نَحْوَهُم، وَكونِي ممرِّضةً لَم أتوانى عَن تَقْدِيم يَدِ الْعَوْنِ لَهُ. مَا إنْ وَصَلتُ إلَى الباصِ، كَانَ أَمِيرُ مُمدداً عَلَى الْمقْعَدِ الْأَخِير وَالْكَثِيرُ مِنْ الشَّبَابِ يَقِفُونَ فَوْقَهُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، فَصرَخْتُ بِهِم وَطَلبْتُ مِنْهُم الْخُرُوجَ من الْمَكَانِ، وَبَقِي صَدِيقُهُ مَعِي كَوْنه يَعْرِفُه جَيِّدًا، وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ عَرَفْت أَنَّهُ يُعَانِي مِن مُشْكِلَة "كهرباءٌ فِي الرأسِ" وَبِسَبَب الْمُوسِيقَى الْعَالِيَةِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْجَوِّ غَيْرِ المُنَاسِب، فَقَد أَحَسَّ بِوَجَعٍ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي نَوْبَة،ٍ فَأَخَذَ يَرْتَجِف وَلَمْ يَسْتَطِع الْكَلَامَ وَكَانَ شِبهَ غَائِبٍ عَنْ الْوَعْي .





لِلَحْظِة أحْسَسْت أَنَّ الْوَاجِبَ يناديني، وَأَنَّه عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَجْلِه،ِ وَأَقَلُّهُ أَلَّا أسْمَحَ لِحَالَتِه أَن تتطوَّرَ، وَكَانَ كُلُّ هَمِّي أَنْ أَجْعَلَهُ يَسْتَعِيد كَامِل وَعْيِه ، جَعَلته يَنَامُ عَلَى جَنْبِهِ بِمُسَاعَدَة صَدِيقِه، وأخذت  أُكَلِّمُه، فَشَدّ عَلِيّ يَدَي، وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَمْ يَفْقِد الْوَعْي.َ    





وَبَعْدَ مُضِيِّ وَقْتٍ قَلِيلٍ بَدَأ يَسْتَعِيدُ وَعْيَه،ُ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِع الْكَلَامَ، وَأِنا لَمْ أُفَارِقْهُ وَبَقِيتُ بجانبهِ حَتَّى تَكَلَّمَ مَعَنَا، ثُمَّ طَلَبَ مِنَّا أَنْ نَتْرُكَهُ لِيَنَامَ فَهُنَا اطْمأنَّ بَالُنَا لِأَنَّهُ أَصْبَحَ بِخَيْرٍ، فَتَرَكْنَاهُ لِيَسْتَرِيحَ قَلِيلًا بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ.





 فِي طَرِيقِ الْعَوْدَة تَوَطَّدَتْ علاقَتي بذلِكَ الشَّابُّ الَّذِي يُدْعَى مَهْدِي،ّ خُصُوصاً بَعْدَ أَنْ اِكْتَشَفْتُ أنَّهُ يُحِبُّ الْكِتَابَةَ ويحاولُ احترافَها، وَأَيْضاً كَانَ لَدَيْهِ مثلُ شَغَفِي، وَأَخَذْنَا أَرْقَامَ هواتفِنا واتَّفقنا أَن نتواصلَ، هَكَذَا انْتَهَى هَذَا الْيَوْمُ الطَّوِيلُ، لَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَنَّ علاقتي بمهدي من الممكنِ أَنْ تتطوَّرَ لِصَدَاقِة متينةٍ، نُخْبِر فِيهَا بَعْضَنَا بأدقِّ تَفَاصِيلِ حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّة، وَنَأْخُذ آرَاءَ بَعْضنَا عِنْدَمَا نُحَاوِلُ كِتَابَةَ شَيْءٍ، ونحاول مُسَاعَدَةَ بَعْضِنَا لِإِيصَال الفِكْرَة الْمَطْلُوب إيصَالُها.





لِقَاء الصُّدَفَة كَان كفيلاً بِإِضَافَة نَكْهَةٍ جَمِيلَةٍ مِن الصَّدَاقَة فِي حَيَاتِي وَفِي حَيَاةِ مَهْدِي،ّ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا يتخيَّلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلُ سُوءِ التَّفَاهُمِ صَدَاقَةً متينةً مَبْنِيَّةً عَلَى الثِّقَة الْمُتَبَادَلَة وَالصَّرَاحَة، وَبَعِيدةً عَن الْكَذِبِ وَالْخِيَانَة المتمثِّلةِ بِطَعْن الصَّديقِ فِي ظَهْرِهِ وَالْغدرِ بِه.





فالصَّداقةُ هِي الثَّبَاتُ فِي الْمَوَاقِفِ وَالصَّدِيق هُوَ الظِّلُّ الَّذِي يلاحقك أَيْنَمَا ذَهَبْت، فَنَحْن قَد اكْتَفَيْنَا مِن التَّجَارِبِ الأليمة الَّتِي مَرَرْنَا بِهَا، وَقَد اتَّخَذْنَا عَهْدًا أَنْ نساندَ بَعضَنا، وَأن نُكْمِلَ الطَّرِيقَ سَوِيّاً، وَأن نُحَقِّقَ أَحْلَامَنَا الْمُشْتَرَكَةَ سَوِيّاً، المتمثِّلةَ بِأَن نُصْبِحَ كَاتِبِين أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ أنْ نَنَالَ شَرَفَ الْمُحَاوَلَةِ.









حَوْرَاء عِيسَى


إرسال تعليق

0 تعليقات