قرية خطاب

أدب الرحلة | قرية خطاب في ريف حماةحماة، مدينة أبي الفداء، تربعت وسط قلبي قبل أن تتربع وسط هذه الخريطة، عروس المدائن الوسطى وأم النواعير، أشهر من نارٍ على علم، مدينة تعلَّقها كلُّ من مرَّ بها، فهو عائد إليها وإن طال الزَّمن.
لن أسرد لكم حكاية حماة، وحكاية الناعورة، ومذاق حلاوة الجبن اللذيذ، فقد ذاع صيتها في الآفاق، سأنتقل بكم 12 كم باتجاه الشمال، الوجهة الأخرى، قرية تتربع على سفح بمحاذاة نهر العاصي، قرية " خطَّاب " حيث ولدت، وحيث ترعرت، وأمضيت طفولتي، كان اسمها الأول " خربة جلّين " اسم آراميّ ذاك أنَّ الآراميين قطنوا بها قبل آلاف السنين، تركوا لنا بعضًا من نصالهم الحديدية هوية لكي نتعرف إليهم بعد مضي الزمن، كان الاسم يعني القبة في لغتهم.


يمر نهر العاصي من جانبها الشرقي إلى الشمال، ونظرا لوجود الماء الوفير والتربة الخصبة استوطن القريةَ السكانُ، فالحياة والرُّوح دائمًا ما تَدبّ حيث الماء والكلأ.
قرية تاريخية فيها مسجد يعد من أقدم مساجد حماة وأكبرها " مسجد خطاب الأثري " حيث يتسع لأكثر من 1000 مصلٍّ، له قبة واسعة كبيرة، وساحة خارجية كبيرة أيضًا، حجارته الكبيرة البيضاء مازالت صامدة إلى الآن، يحنّ إليه بعض العجائز فينزلون إليه يقبلون جدرانه، يرفعون الأذان ويقيمون الصلاة.
الأراضي الشرقية من القرية تشتهر بزراعة المحاصيل الموسمية أكثر من الغربية، مثل ( البطاطا، الملوخية، البندورة، الكوسا...إلخ) أمًّا أراضيها الغربية فتشتهر بزراعة الأشجار المثمرة ( الجارنك، الدراق، الخوخ، ...إلخ ) وتُروى من مياه الآبار الارتوازية ومن مياه سد " الرابة " الذي يُخزِّن مياه الشتاء لتروَى بها الأراضي صيفًا.
في هذه القرية يمكنك أن تذهب رحلة في فصول السنة كلها، تتعاقب عليها الفصول الأربعة، فصيفها شديد، شمسه حارقة، وحره كحد السيف، يصبغ الوجوه بالسمرة، وينضج حبات القمح في سنابلها.


أما خريفها فأهون على النفس من حر الصيف ومن برد الشتاء، يُعرّي الأشجار من ردائها؛ فتتساقط أوراقها وتكسو الأرض ثوبا جديدا، وتهرب كل دواب الأرض إلى مساكنها.
أما شتائها، فبرده شديد، برد تسيل له الأنوف كما تسيل عيون الثكالى، ويتجمد الدمع في الآماق، والماء في الأشداق، كما يتجمد في البرادات والحوافظ.
أما ربيعها فماذا أحكي لكم عنه؟ تركته لعلي أُفرد له بابا لوحده، أجمل الفصول فيها، تُبدل فيه القرية أثوابها جميعا لتنتقي أفضلها وأحسنها، تُصبح قطعة من الجنة نزلت إلى الأرض، تمتلأ روضاتها بالزهور والرياحين، يمكنك أن تقف على سفحها فتشاهد أراضيها الشرقية كل قطعة منها قد اكتست لونا من ألوان قوس قزح، زاهية بألوانها وعروس بطلتها وحللها، هل أقف هنا؟ لا والله، وكيف لي ذلك؟ قرية ماؤها كالزجاج الأزرق، أرق من الحرير، أصفى من الدمع في مُقلِ العذارى، نسيمها عليل يعطر الأنفاس والأجواء، كل ما فيها يجعلها من الحسن تتكلم.



أما رجالها ونساؤها فلهم قصة وألف حكاية، قصة ثبات على العادات العربية القديمة، لهم شجاعة الفرسان وصبر الأنبياء، كرم حاتم وحكمة السموؤل، ولنسائها عفة عائشة " رضي الله عنها " وحسن القمر في ليلة التمام.
مازال رجالها يحافظون على الزيّ القديم، الكلابية - رداء فضفاض – والغترة - وشاح مثلث - والبريم - حلقة مزدوجة - ونسائها تتوشح السواد في الطرقات، يتشاركون أفراحهم وأتراحهم كأنهم جسد واحد.
في الجانب الشمالي من القرية تقع مقبرة القرية، حيث ترقد الأجساد بعد طول عناء، وفي وسط القرية، هناك مقبرة أخرى صغيرة.
أما عن عمران القرية، هناك الأحياء القديمة التي مازالت محافظة على أزقتها القديمة وشوارعها الضيقة، على ورودها المعانقة للأرصفة وزهورها التي تملؤ جنبات الطريق وأمام أبواب المنازل، وهناك العمران الحديث المتطاول والشوارع العريضة المنظمة التي تفضي إلى الساحات مثل ساحة الكراج وساحة القرية الوسطى، فيها شارعين رئيسين يخترقان جسدها ويصب بينهما طرقات فرعية، فيها ثكنة عسكرية ضخمة وكبيرة، وحديثا تم بناء كليّة بيطرية على أطراف القرية من أكبر الكليات المعروفة. 
إلى هنا ينتهي بنا المطاف، وقبل النهاية لابد لي من ذكر سبب تسميتها خطاب، سميت خطاب بهذا الاسم نسبة إلى رجل يدعى خطاب الحورانيّ، حيث سكن فيها حين مر بها منذ أكثر من 500 عام، وقد اشتهر بالكرم فسميت مزارع خطاب، وهذا هو سبب التسمية.
ما بين جلّين وخطاب قصة حب وحكاية عاشق ينتظر العودة.

بقلم: علاء المحمود
 

مجلة أزرق - العدد الثامن

 

أدب الرحلة

إرسال تعليق

0 تعليقات