الجزء الثاني:
لم أعد أقوى على بُعدها لم أعد أقوى على فراقها أكثر.. تركت كل شيء مخاطراً بحياتي الهادئة ببيتي وابني وزوجتي وسرتُ خلفَ قلبي ومشاعري عدتُ لها، احتضنت قلبها شَممتُ عطرها سمعتُ صوتها غرقت بعينيها، تركت كل همومي وأفكاري وتبعت نبض قلبها..
عاتبتني..
لمَ الفراق، لمَ البعاد اعترفت لي في لحظة ضعف بحبها، بنار الشوق التي تأججت داخلها.
آه يا أمراة لم أعرف معنى العشق إلا معها..
ماذا أفعل كيف لي أن أكون معها ولي حياة مع غيرها؟؟
ألف سؤال وسؤال وكلامٌ حبيس في القلب لا يُقال..
تعالي أضمك الان ولأنهي شوقي الذي لم يهدأ..
عدنا من حيث توقفنا تابعنا قول الكلام الذي لم يُقل.. وعشنا الحب الذي لم نعشه من قبل..
حتى فاجأني المرض، تباً له جعلني أغيب عنها يوما ونصف، خشيتْ أن أكون قد اختفيت مجدداً.. ماذا تفعل؟؟ والقلب جرب نار الفراق مسبقاً.. هي التي أصبحت تخشى غيابي إن تأخرت عنها دقائق تخشى أن أكون قد تركتها.
هل تتصل على هاتفي فتسمع صوتي؟؟ نعم هو الحل الأمثل.
وبقلب مشتاق تتصل بي وأنا الذي منعتها أن تتصل بي مهما حصل.. ولكن هل يعرف قلب العاشق أن ينصاع للقوانين.
رنة فثانية تبعتها ثالثة ورابعة وصوت زوجتي يقطع صوت الرنين، صدمة، صمت، أغلقت الهاتف وغابت..
اختفت، غابت كما غبتُ أنا قبلها، أين أنتِ يا مهجة القلب، يا نبض الروح، أين أنت يا عشقي الحقيقي..
أيام وليالٍ لم أذق طعم النوم والراحة أفكر بها، تهاجمني خيالاتها، عيونها، صوتها، لم أعد أقوى على هجرها لي، أسبوع فآخر وغيابها يقتلني أكثر..
أما زوجتي ثارت، غضبت، ما معنى أن تجد اسم أخرى في هاتفي، رسائل، حوارات نصوص، كلمات تجمعني بغيرها..
عذرتها جعلتها تفرغ غضبها كله عليّ ماذا تفعل وهي ترى من أحبته واختارته زوجاَ يضرب بمشاعرها عرض الحائط لتسلية يرغب بها، هكذا أسمت علاقتي بغيرها..
لم تكن تدرك بعد أني لم أكن إلا عاشقاً زاره العشق متأخراً.. كانت أمي التي تعيش معنا في نفس المنزل بعد وفاة والدي هي التي أقنعت زوجتي بالبقاء في البيت وعدم تركه لأخرى.
بقيت زوجتي في البيت لكنها لا تحدثني ولا تنظر لي، لا ألومها ولن أغضب منها فلها كل الحق..
تباً لقلبي الذي سمح للحب أن يأخذه بعيدا عن بيته وعن هدوءٍ يعيشه.. آه يا قلبي آه.. ولكن ما ذنبي أنا، لم أكن أبحث عن حب ولم أكن أبحث عن تسلية.. لم أكن أنوي أن أقع في العشق أبداً.
مرت الأسابيع أحاول استرضاء زوجتي، وأحاول قتل الشوق في صدري..
محاولاً نسيان هذا العشق الذي جاء يخيم على قلبي..
سكنت الأمور في المنزل وعاد كل شيء كما كان تقريباً، أميرتي أصبحت أكثر حرصاً على متابعة هاتفي.. لا كلمات سرية لا اتصالات تمر دون أن تراها.. غيرةٌ زوجيةُ لها كل الحق فيها..
لكن أين أنتِ يا عشقي اشتاقكِ.. طيفك يزورني يحادثني كل ليلة..
أعلم أنك تبكين تتألمين.. تفرغين غضبك في الكتب.. ذهبت للمكتبة التي ترتادها كنت أعلم أنه المكان الوحيد الذي لن تتركه مهما قست عليها الأيام..
انتظرت أيام حتى رأيتها هناك عند الطاولة المنعزلة القريبة تضع رأسها في كتاب، تلتهم صفحاته وكأنه يسحب كل ألمها ووجع قلبها..
سحبت الكرسي جلستُ بهدوء، لم تشعر بي، لكنها شعرت بعطري يملؤها، أخذت نفساً عميقاً رفعت رأسها نظرت إليّ بصمت فقلت لها وأنا اشتقت لك أكثر..
اعتذر منكِ، حقاً لا أستطيع التبرير..
أحبك وليس لي ذنب، أحببتك دون تفكير، وهل نحن نختار متى نحب ومن نحب..
لم أكن أعلم أني لم أعرف الحب إلا حين التقيتك..
أتيت وأتى الحب معك، سامحيني، تعلمين أني..
قطعت حديثي وقالت عندما تمر شهور أو سنين ستتعرف على أخرى جديدة..
لا تتذكرني.. لا تحدثها عني.. لا تدعني أمر ببالك يوماً، أنت لم تعرفني لم تحبني، نحن لم نتحدث ولم نقرأ الكتب معاً.
اعتبرني مت، أنا ميتة منذ البداية.. كنت محطمةَ القلب مكسورة الجناح، كنت أجمع شتاتَ روحي بصعوبة قبل أن ألقاك.. نسيت ألمي معك.. نسيت القهر والوجع نسيت كسور قلبي.. وعشت السعادة معك وبك..
أنت قتلتني ولم يعد هذا القلبُ قادراً على اصلاح ذاته من جديد.
عدْ لبيتك ولكل من فيه ودعني ألملم شظايا القلب المكسور وحدي..
تركتني وذهبتْ تاركةً خلفها قلبا ممتلئا بها وروح تشتاق لها وكتاب لم تنته صفحاته بعد..
ها هي الأيام الطويلة تمر على روحي ثقيلة مؤلمة لم أعد أدرك كيف لقلبي أن يتحمل هذا العشق المجنون وهي بعيدة عني.
ذهبتْ واختفتْ بين زحام الأيام، لم تعد ترتاد المكتبة، وغيرت مسكنها إلى أين ذهبت لم أعلم ولعلي لن أعلم أبداً..
عادت أيامي كما كانت من قبل، تسير على نمط واحد.. عملٌ في الصباح استراحة ما بعد الظهر وعملٌ آخر في المساء، أجلس ساعة مع العائلة بجسدي وفكري لايزال يطارد ضحكاتها ويرى صورتها في كل الأشياء، أسهر وحدي لساعات الفجر وغفوة صغيرة ألملم بها تعب جسدي لأبدأ يوماً جديداً تكون أول من يخطر في بالي وآخر من يغفو عليه قلبي.
كانت الأيام تمر قاسية على قلبي فكان لابد من أن أكتب كل شيء، علّي أن أخفف عن نفسي ما يعتمل بها، لعل هذه النيران تخمد وتنطفئ..
بدأت أمضي الليالي ساهراً أدون كل ما شعرت به نحوها، ما فعلت بها ولها كنت أتمنى وأنا أصف شكلها للورق أن تخرج أمامي هي التي حدثتني يوماً عن شخصيات ورقية تخرج لها من الكتب، ألا تخرجين يا معشوقتي الجميلة..
سأكتبك على ورق معطر، مزخرفة حوافه بأزهار جميلة كتلك التي تحبيها..
سأسكب نقاط من القهوة على تلك الورقة لعلك تشربين منها، ألن تخرجي لي هل تحتاجين للشموع سأشعل لك كل يوم شمعة أناجيك حتى تنطفئ وتنطفئ معها روحي..
لو أني ألمحك مرة أروي بها عطش الحب وأطفئ نار الأشواق.. هناك غصة في قلبي احتاج أن أصرخ أن أبكي، ها أنا أبكيك يا سكرتي وهل يبكي الرجال إلا إذا كان الأمر جلياً..
وهل يوجد أكبر من حبك لأبكيه وأرثيه.. لو تعودي هنا أراك من بعيد، اشتقت لرؤيتك وأنت تحملين كتاباً وتمسكين خصلة من شعرك تلفينها حول اصبعك تبتسمين إذا صادفك موقف مضحك وتحمر وجنتاك إذا قابلك اعتراف بالحب.. أتذكر تلك المرة التي دخلت المكتبة ووجدتك منزوية عن الكل تبكين بكل ألم؟! سألتك وقتها ما الذي يبكيك؟؟ من الذي تجرأ وأنزل دمعك؟؟
قلت لي يومها بأن البطل ترك حبيبته، تركها وحيدة إلا من ذكرياتها معه..
شتمته ولعنت الكاتب ودار النشر وكل من كان له سبب في اخراج هذا الكتاب الذي تجرأ على حبيبتي وأحزنها..
لم أكن أعلم وقتها أني أنا الذي سيطعنك بالهجر وأنا الذي سيكون سبباً في انهمار دموع قلبك..
كانت حالتي تزداد سوءاً وأمي كانت قلقة على ابنها الوحيد، زوجتي تعلم أن ما أمر به بسبب فراقها لكنها تجزم بأني من حقها وبأنها فترة وستزول وبأن البعد سينسيني إياها..
أرادت زوجتي أن نترك المدينة كلها بحجة أن هواء المدينة لا يناسبها..
كانت تريد أن تبعدني عن ذكرياتي معها تريد لي ل ألا أسير في نفس الطريق الذي سرنا فيه معاً، ألا أجلس في نفس المقهى وأرتشف من نفس القهوة التي كانت تشربها معي.. كانت تريد أن تبعدني عن تلك المكتبة اللعينة كما تسميها..
لأنها السبب الأول في لقائي بها..
كانت تكره أن تشاهدني أمسك كتاباً وكأنها تدرك أني أراها في كل سطر..
وتحت ضغط منها ومن أمي ولأني لم أعد أهتم لأي شيء في الحياة سوى تلك المرأة التي أحببتها.. والتي اقتنعت أن كل حياتي عشتها انتظاراً لها لأعشقها هي وحدها.
انتقلنا لبيت جديد وتقدمت للعمل في مشفى خاص تم قبولي للعمل فيه..
طُلِبَ مني العمل على حالةٍ غير مستعجلة كوني جديد..
انثى في غيبوبة جراء حادث سير لم تستيقظ من وقت الحادث ويتم معالجة إصابتها منذ عدة أشهر.. لم يسأل عنها أحد سوى صديقة لها، تأتي في نهاية كل يوم تطمئن عليها وتدفع مستحقات علاجها، دخلتُ على المريضة لأتابع حالتها وشكرت الله أنها مريضة نائمة لن تئن وتشتكي..
لم أكن أتصور يوماً ان ألتقي معشوقتي راقدة على سرير في مشفى غائبة عن الوعي لا تدرك ما يجري حولها.. مغطاة بالجروح والضماد.. ارتميت عليها بكيت وبكيت كما لم أبكي من قبل، حدثتها قبلت جبينها أمسكت يدها رجوتها استيقظي..
اعذريني يا غاليتي، لم أعرف ماذا أفعل نسيت كل ما تعلمته في الطب لم أعرف ماذا أفعل سوى أن أبكي حبيبتي.
تمالكت نفسي غسلت وجهي وقرأت الملف الخاص بها، استدعيت الممرضة سألتها ما الذي أوصل المريضة لهذه الحالة..
حادث سيارة أجابت ببرود.
- كيف؟
- كانت تسير بسرعة عالية وكانت غير منتبهة للطريق.. يبدوان هناك ما كان يشغل تفكيرها أثناء القيادة، فلم تنتبه للإشارة واصطدمت بشاحنة نقل أدى لقلب سيارتها عدة مرات..
نجت من الموت بأعجوبة. عندما تستيقظ ستصاب بصدمة لأنها لن تعود قادرة على السير مجدداً.. مسكينة لا زالت في مقتبل العمر..
أعتقد أن أحمقاً أحزنها قبل ركوبها السيارة فنحن النساء نبكي الوردة إذا ذبلت..
غرست الممرضة سكاكينها في قلبي دون أن تدرك ذلك وغادرت.
هل أنا السبب يا محبوبتي.. ألم يكفِ أني جرحت روحك وها أنا السبب في جراح جسدك..
بقيت ساهراً عندها لم أتركها وأنا الذي كنت أبحث عنها لأيام وليالٍ..
اتصلت زوجتي مراراً، أخبرتها بأن لدي عمل في المشفى ولن أعود الليلة..
لم تكن تعلم أني التقيت حبيبة قلبي، التقيتها محطمة بكل ما فيها من روح وجسد.
أيام وأشهر وأنا لا أنفك أبحث عن طريقة تعيد الروح لروحي النائمة..
سهرٌ لكن هذه المرة على دراسة أسباب غيبوبتها الطويلة..
أجلس بقربها أحدثها.. أقرأ لها كتبها المفضلة أناقشها أوجهها للشمس أجلب لها الأزهار البرية التي تحبها..
أصبح كل ما أقوم به هو الاعتناء بها.. كانت زوجتي ممتنة للعمل الجديد الذي كان يأخذني من ذكرى حبيبتي.. وكان لزيادة مستواي المادي راحةً إضافية لها..
لم يخطر ببالها أني ألقى حبيبتي كل يوم.. حبيبتي النائمة قسراً..
كان ذاك الصباح صباحاً مشرقاً على غير الأيام السابقة.. أحضرت الأزهار وضعتها بجانبها كالعادة.. كنت أحدثها عن كتاب جديد سنبدأ به الليلة سيكون مفاجأة لك.. أعلم أنك تنتظرين هذا الجزء منذ مدة..
أحضرته لك يا حبيبتي.. سأقرأه لك ستكون رحلة جديدة نخوضها معاً كما السابق.. هل تذكرين عندما كنا نجلس معاً ونقرأ من نفس الكتاب.. نضحك ونلهو بين صفحاته..
كنت أحدثها وأنا مشغول في فتح الستائر وتوضيب غرفتها فهذه كانت مهمتي.. كانت أوامري ألا يدخل أحدٌ غرفتها سوى الممرضة التي تقوم بغسل جسدها..
أما ما تبقى فكانت أمور أقوم بها بنفسي.. وهل أسمح لأحد بأن يمس جسد محبوبتي النائم..
سمعت همساً وسعلةً خائرة التفت لها.. وجدتها تحاول فتح عينيها ببطء محاولةً تجنب الضوء..
اغلقت جزء من الستارة وركضت باتجاهها..
افتحي عينيك يا حلوتي انظري إنها الشمس تناديك.. آه يا حلوتي عدتي لي من جديد..
نظرت لي نظرة خاوية التفتت حولها قالت أين أنا؟؟
- أنت في المشفى يا جميلتي؟؟ ستكونني بخير لا تقلقي..
- من أنت؟؟
هل ضربني أحدهم على رأسي الآن أم أن حبيبتي تتجاهلني. هل تعاقبني بسبب ما فعلته بها؟؟
- من أنا؟؟
سؤال آخر منها وضربة جديدة على رأسي..
لااا يا حلوتي لا تمحيني من ذاكرتك..
أكنت قاسياً لهذه الدرجة حتى ينساني عقلك..
- أنا مشوشة.. لا أذكر شيء.. لا أذكر سبب وصولي لهنا.. ما الذي حصل معي، لما أنا هنا..
لم أقوى على الكلام.. كنت أنظر لها مذهولا من شدة الصدمة.. حبيبة قلبي مهجة روحي لا تذكر من هي ولا تذكرني ولا تذكر ما كان بيننا..
أهو عقاب جديد من القدر لأني أحببت.
كنت فتاة حالمة تعيش بين الكتب، تهوى أبطالها وتتعاطف معهم، كنت أحيا للكتب ومعها ولم يخطر في بالي أن أقع في الحب، أن أحب بشرياً، أن ينبض قلبي لغير الشخصيات الورقية، من بين ملايين البشر كان هو الذي نبض له قلبي أحببته وأحببت الحب معه وأحببت كل لحظاتي معه.. عيونه العسلية أسرتني تبدو للناظر إليها وكأنها شلال من شهد، دوماً كانت تغيب عني التفاصيل أنا التي كنت أتعجل النهايات ولا أهتم لقصاصات الأشياء، ما كنت أعلم أني سأقع فريسة لحمى التفاصيل وليست أية تفاصيل.. تفاصيله هو.
في مرة أتذكر حين كنا نجلس في المكتبة، لفتتني تلك الإسورة التي يضعها في معصمه، قلت له إنها جميلة جداً لمستها بيدي كانت مصنوعة من الجلد مكونة من قطعتين، كان هذا منذ زمن. لا أعرف لماذا تغيب عني بعض التفاصيل أحيانا، ألانها تؤلمني، نعم تؤلمني كثيراً جداً، لا أقوى على تحمل هذا الألم، أشعر به في صدري، يخنقني، أحياناً لا أقوى على التنفس أغمض عيوني مبتعدة عن كل الذكريات محاولةً أخذ نفس لعلي أسترد نفسي فتحاصرني دموعي تنهار على وجهي وأنهار أنا معها، أكتم صرخة داخل روحي لماذا؟؟؟
من بين كل البشر لماذا اخترتَ أن تعذبني أنا؟؟ لماذا وضعك القدر في طريقي.. أنا التي أرى عذابات الحب أسطراً على ورق وحروفاً بين صفحةٍ وأخرى الآن أعيش هذه العذابات بسببك، لم تكتفي بحرق روحي وها أنا الآن مسجونة هنا بين هذه الجدران، ملتصقة بهذا السرير، لا أقوى على الحركة.. من الجيد أنك تركت لي عيوني لأقرأ بهما الكتب، كان لطفاً منك أن تترك لي القدرة على الإمساك بالكتب وقراءتها وعقد صلح جديد مع شخصياتها لأعود لهم أشاركهم أحزانهم وأفراحهم، لأخبرهم عن مغامرتي الفاشلة في الحب، عن رحلةٍ خضتها لعيش الحب والتحليق عالياً، فعدت مكسورة لا أقوى على السير أو الحركة دون مساعدة من أحد.
بدأت بفتح عيوني على مهل وكان يقف عند النافذة يسقي أزهاراً ويتحدث موجهاً كلامه لي، من بين كل الأطباء أعود من غيبوبتي ليكون هو طبيبي هناك في انتظاري، لمّا شعرت به يلتفت نحوي أغمضت عيوني.. هل كان خوفاً من لقائه أم غضباً منه لا أعلم وقتها كل ما أردته أن أهرب منه ومن مواجهته.
سمعته يحدثني عن حبه وعن كتاب سيقرأه، لا أدري حقاً كيف استطعت أن استجمع نفسي وأجعله لا يدرك أني اسمعه وأني مستيقظة..
أردت الهرب من عيونه، أعلم جيداً إذا التقت عيوننا سيسلبني إرادتي كاملة.
بقيت طوال الليل أفكر وأفكر واستسلمت للنوم بعدما أيقنت ما سأفعله غداً..
ها هو الصباح يخترق كل الظلمات التي تشكلت داخلي، يمنحني القوة التي أنشدها، أوهمته بفقدان ذاكرتي بأني لم أعد أذكره، لم تعد له أي ذكرى في عقلي.. لا أعلم كيف كان وقع كلماتي عليه ولا أعلم إن كان سيهتم أم لا..
لكني أردت أن أغادره وأساعد نفسي كي يغادرني هو أيضاً، أحببته لذلك أردته سعيداً مع زوجته وابنه، أردت أن يعود لهما، سينساني مع الزمن، وسأصبح مجرد خيالات تراوده في ليالي الشتاء البادرة، سيستيقظ من نومه شاعراً بالبرد فيلتمس الدفء في حضن زوجته فقط..
وأنا سأكون كدخان سيجارته أطير في الهواء بعيداً عنه.. هذا هو المنطق هذا هو الرأي السليم هكذا حدثني عقلي هكذا فكرت.
وبدأت التنفيذ..
على صوت الممرضة استيقظت، كانت جميلة ممتلئة حنطية البشرة تمتلك عيوناً خضراء بلون العشب في بداية فصل الربيع، وشعرها بندقي اللون مربوط كذيل حصان.
- صباح الخير.
- صباح النور، كيف أصبحت؟؟
- بخير شكرا لك.. هل الطبيب المسؤول عني هنا؟؟
- لا لم يصل بعد سيكون هنا بعد ساعة ونصف.. أمضى الأيام السابقة كلها هنا لذلك طلب منه المدير أن يتأخر في القدوم اليوم. هل تريدين شيءً معيناً؟؟ هل تتذكرين شيئا..
- أريد الخروج من هنا حالاً
- لا هذا مستحيل.. كيف يمك....
- أذهبي إلى المسؤول وأخبريه أني أريد الخروج حالاً ولن تخبري الطبيب المسؤول عن حالتي شيئاً..
لكن..
- لا يوجد لكن. أرجوك الآن حالاً ... قبل عودة الطبيب. واتصلي بصديقتي التي كانت تأتي لزيارتي لتأتي حالاً لتسدد جميع الالتزامات المادية..
- حسناً.
- شكراً لك. وهلا عدت لمساعدتي في ترتيب أموري..
- بكل تأكيد.
غادرت الممرضة وعلامات الدهشة تملأ ملامحها.. أعلم أن ما سمعته جنون محض لكن أردت الذهاب بسرعة، قبل أن يعود.. وهذا ما كان.
شاردة بخيالاتي بعيداً، لكن هذه المرة لم أكن أنظر إلى نوافذ البيوت أصنع قصص العشق لأصحابها.. بل كنت أزيل من ذكرياتي هذا العشق المجنون، أردت أن أمحوه من قلبي وألقي به خلفي من نافذة السيارة التي تقلني..
كنت أنتزع كل ذكرى وأنزع معها جزءاً من روحي، لم أبك هذا العشق ولن أبكي نفسي أبداً سيكون درساً تعلمت منه الكثير..
أعلم أني خسرت الكثير من هذا الدرس لكني أعلم علم اليقين أني سأحصل على مكافأة أجمل منه.. لكن أين هي وما هي لا أعلم.. سأبحث عنها بقلبي وبروحي الممزقة.. سأسير إليها بهذا الكرسي الذي سيرافقني بقية حياتي كذكرى وحيدة عن هذه اللعنة التي اسمها حب والتي أصابتني، سأكون أقوى وسأنسى كل ما مررت به أنا أعلم.. لم أشعر بهذه الدمعة التي حرقت وجنتي وهي تنساب من مقلة عيني ممسكة بيد أخرى وهي تجاري أفكاري، لم أستطع أن أوقفها وكأنها تكاثرت على عقلي قائلة له دعنا ننزل هنا ونحن في الطريق لنغسل بقايا هذا العشق، نريد أن نصل إلى وجهتنا دونه..
وصلت إلى المطار كنت قد طلبت من صديقتي أن تحجز لي في مستشفى خارج البلاد لأكمل علاجي هناك..
ركبنا الطائرة وغفوت أكثر الطريق ... لقد أنهكتني الطريق البرية وأنهكني إلقاء تلك الذكريات وذاك الحب، أتعبني كثيراً حين عشته وأتعبني حين أردت التخلص منه..
كنت آخر من نزل من الطائرة، ساعدتني صديقتي الرائعة.. كانت سيارة الاسعاف بأضوائها الصارخة تعلن للجميع عن وجود حالة مرضية، وضعوني في سيارة الاسعاف وانطلقنا إلى المشفى الذي سأقضي فيها فترة علاجي، في بلد لا أعرف فيه أحد خالية من الحب ومن ذكرياتٍ أقصيتها قسراً.. ومن قصة لم يبق لي منها إلا جرح غض وكرسي سيلتصق بي بقية حياتي.
هيفاء
تمت
22/4/2019
1 تعليقات
ابدعتي جميلة جدا جدا لا اقدر على الوصف لكنها قصة اكثر من رائعة سافرت معها كانني اشهدها امامي بكل تفاصيلها مبدعة انتي
ردحذف