في مشهدٍ من مشاهد قوّةِ الله وجبروته، وقدرته وعظمته، انشقت الأرضُ، وقذفت أجساد بني آدم خارجها، ألقت أمانتها من أجساد البشر والحيوانات التي تفتت عظامها وتناثرت أشلاؤها في أحشائها، ليقذفَ الله الروحَ في هذه الأجساد، فعادت كما خلقها ربُّها أوّل مرّة.
إنّه يومُ الحَشر! لقد بعثنا الله أحياءً مِن جديد، ليبدأ الحساب، ويُجزى كُلُّ عاملٍ بما عمل..
استَفقنا على صوتٍ رهيب، دَبَّ الفزَع في قلوب الجميع، وقُمنا شاخِصةٌ أبصارنا إلى المجهول، حيث يبحثُ المرءُ عن أيّ إجابةٍ لِما يحدث!
فنادى المجرمون يا ويلتنا من بعثَنا مِن مرقدنا، فردَّ عليهم أهل الإيمانِ أن هذا ما وعدَ الرّحمن وصدقَ المرسلون..
وجدنا أنفُسنا في دورِنا وبين أهلينا من جديد، ولكن رَغمَ وجود النّاسِ جميعهم حولي، وحاجتي لأحدٍ مّا لأجد شيئًا مِن الطمأنينة عنده، إلّا أنني كحالِ الجميع هنا، كُلٌّ يفِرُّ مِن أُمّه وأبيه، وأخته وأخيه، وصاحبته وبنيه! فلا أريدُ الوقوفَ مع أحد، أو الحديثَ لأحد بسبب هول ما يجري، وبما أشعر.. لكُلّ امرِءٍ يومئذٍ شأنٌ يُغنيه..
وكُنّا أعرى ما يكون، أجوعَ ما يكون، أعطش ما يكون، بحالةٍ يُرثى لها، إننا العباد الأذلّاء الفقراء، لم يشبع منّا أحد، أو سدَّ رمقهُ، إلا شُربةً أو طُعمةً قدّمها في حياتهِ لله.
وفي وسطِ هذا المشهد المروّع، وتخبّط الناس، وتزاحم الخلقِ على الأرض، حيث لا تجدُ لنفسكَ سوى موضعُ قدميك! تنزّلت الملائكةُ على المؤمنين لتثبتهم، وتلقمهم الطعام في أفواههم كما تُلقِّمُ الأمُ الطعامَ في فيهِ ابنها، وتبَشّرهم أن لا تخافوا ولا تحزنوا. ولكنّهُ هولُ المَطلَع!
حيثُ أمر اللهُ البحارَ أن تنفجر، فتحوّلت إلى أكوامِ نارٍ ولهَبْ، تسُوقُ النّاسَ وتدفعهم إلى أرضِ المحشر، وتَرى السّماءَ تقطّعتْ وتقسّمت كأوراق الكُتبْ، ثمّ ذابتْ بأمرِ ربّها فهيَ كالدّهان، ونزَلَ أهلُ الملأِ الأعلى، كانتْ كلّ سماءٍ تذوب، ينزلُ مِنها ملائكةٌ أشدُّ وأعظمُ خَلقاً مِن سابقيهِم! واصّطفّوُا حولَ أرضِ المحشر، بمنظَرٍ لو قُدِّرَ لنا موتٌ بعدَ نُشورِنا لمِتنا من هولِه.
وغيرهم الملائكةُ المُوَكّلونَ بِنا، تَراهم يدُلّونَ المؤمِنَ باللهِ إلى الطريق، ويجرُّون الكافِر على وجههِ إلى الحشر.
إلى أن وصلنا، جميعُ من في الأرض، كُلُّ خلقٍ جاءَ مِن بعدِ آدمَ إلى قيامِ السّاعة، كُلُّ حيوانٍ وكُلّ دابّة، وصلنا إلى أرضِ المحشر، متساويةُ الأبعاد، لا تَرى فيها عِوَجاً ولا أمتى، لا جبالاً ولا وِدياناً ولا تلالاً، أرضٌ جديدة لم نرى مِثلها أبدا، لم يُرتكب عليها جٌرمٌ ولا معصيّة، طاهرة نقيّة، كالفضّةِ المُذابة..
تجدُ فوقها كُل عبدٍ تَجبّرَ في الأرض، وكلّ عبدٍ طَغى أو ظَلم، مُهطِعينَ مُقنعِي رؤوسهم، يتذللونَ، خائفونَ، بل تقرأُ الرّعبَ في عيونهم وأجسادهم أينما كانَ بُعدهم عنك، ليُرِيكَ الله لمَنِ العِزّةُ اليوم..
ولكنّهُ الفزَعُ الأكبر! يومَ يُدَبُّ الخوفُ في صدركَ، فلا تَذكُرُ مِن حياتِكَ سوى اسمُك، فينسى المؤمِنُ إيمانه، وينسى الكافرُ جحودَه.
اصطففنا جميعُنا وانتظرنا بِدأَ الحِساب، كُلّ أمّةٍ معَ نَبيُّها، ويا لِحُسنِ حظّي بالوقوفِ تحتَ لواءِ محمّد بنُ عبدِ الله ﷺ.
طالَ انتظارُنا وذُعرْنا ولم نجد إلّا أن نذهبَ إلى أبينا آدمَ وأنبياءِ الله أُولوا العَزم، نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ، وانطلقنا نبحثُ عن شفيع، فما كان لكُلِّ نبيّ إِلّا أَن يُعرِضَ خوفاً مِن ربِّه ويقولُ نفسي نفسي، وأحمدُنا يُنادي مَن ورائي! كُلٌّ قال لستُ لها لستُ لها -أي الشفاعة- ونبينا محمد ﷺ قالَ أنا لها أنا لها.
فذهبنا إليه، وقلنا يا محمّد أنت رسولُ الله، وخاتم الأنبياء، ولقد غفرَ اللهُ لكَ ما تقدّمَ مِن ذنبكَ وما تأخّر، فاشفع لنا عندَ ربّك، فانطلق ﷺ، وأتى تحتَ العرش، ووقعَ ساجِداً للهِ عزّ وجلّ، ففتحَ اللهُ عليهِ منَ المحامد وحُسنَ الثناء ما لم يفتحهُ على أحدٍ مِن قبل، ثُمّ قِيلَ لهُ: يا مُحمّد سَلْ تُعطه، واشفَع تُشفع، فرفعَ رأسهُ وقال: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فقِيلَ لهُ أدخِل مِن أمتك من لا حِسابَ عليهم!
فتَراهُ ونحنُ واقفونَ يأخُذْ بأيدي أهلِ الجنّة مِنَ الصّابرينَ والصادقين إلى الجنّة، حينها تتمنّى لو قُرِّضَتْ أعضاؤُك بالمقاريض، وقُطّعَ جسَدُكَ وأنتَ حيّ وتصبر، فقط لتنالَ ما نالوا، وكفى بهِ مِن جزاء، لقد أمِنوا أهوال البعث والحشر والحساب، فترى المجرمين يتمنوا لو يُلقى بِهم في جهنّم لتنتهي أهوالُ الحشر، فلا مُعينٌ لهم ولا نصير..
إنها القيامة، الصاخّة، القارعة! التمهيد لحياة لا نفوقَ بعدها، إِمّا خالد مُخلّد في النّار، أو خالد مُخلّد في الجِنان، يومَ ينفعُ الصّادقين صدقهم، يومَ تُجزى كُلُّ نفسٍ بما كسَبَتْ وهُم لا يُظلمون..
فبعد شفاعة النبي ﷺ الأولى، تطايرت الصّحف، وكانت بمثابة مُحصّلة نهائية لأعمالِ العبد، فأما أن يتلقاها بيمينهِ فيسعدُ سعادةً ما تذوّقها مِن قبل، وإمّا أن يتلقاها بشمالِهِ فيتعسُ تعاسةً ما عاشها مِن قبل.. ثُمَّ سأَلَ اللهُ الرُّسُلَ من نوحٍ أولهم إلى عيسى آخرِ من يُسأل، أن يا نوح هل بلّغتَ قومك؟ فقال نعم يا رب، فقال يا قوم نوح هل بلّغكم نوح، فقالوا لا يا رب! فقال نوح بعزّتك وجلالتك قد بلّغتهم، فقال الله هل معكَ شهيد؟ فقال محمّدٌ وأمته! فشهدَ نبيّنا وشهِدنا أنه قد بلّغ، وقد أصرَّ قومُ نوحٍ وقالوا كيفَ تُشهِدُ علينا من لم يكن معنا؟ فسألَنا الله تبارك وتعالى وأجبناهُ أنّا آمنّا بما أنزلتَ في قرآنكَ على نبيّك، فقالَ صدَقَ محمّد، صدقت أمّة محمّد، صدقَ نوح، كذبَ قومُ نوح. وجرى الأمرُ هكذا مع كل نبيّ وقومِه، وكُنَّا شُهداءَ على صِدقِ الأنبياءِ وكذِبَ أقوامِهم، وتحقق قولهُ تعالى {كنتم خيرَ أمّةٍ أُخرِجَت للنّاس}..
ثُمَّ وُضِعت الموازين، وكُلٌّ آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً، من آدم إلى أن ورِثَ الله الأرضَ ومن عليها، وبدأت الملائكة تُنادي أينَ فلان ابن فلان، فيعرفُ كلُّ واحد نفسهُ ولو تشابه الإسم، ويُحضر إلى بين يديّ الله عزّ وجَلّ، ويُنادى هذا فُلان ابن فلان، من كان له مَظلمةٌ عنده فليأتي، ويأخذُ كلُّ ذي حقٍّ حقّهُ، ثمّ يبدأُ العبدُ بالاطلاع على صحيفةِ أعماله، فما أنكرَ أحدٌ شيئاً منها، فأمّا من خفّت موازينَ حسناته فيُنادي اللهُ ملائكتهِ خُذوهُ فغلوه، ثمُّ الجحيم صلّوه، ثم في سلسلةٍ ذرعها سبعينَ ذراعٍ فاسلكوه.. وأمّا مَن ثَقُلتْ موازينَ حسناتهِ فينقلبْ إلى أهلهِ مسروراً، ويقول هاؤُم اقرؤوا كتابيَ، إني ظننتُ أنّي ملاقٍ حسابيَ، فهوَ في عيشةٍ راضية، في جنّةٍ عالية..
فهذهِ أرضُ المحشر، التي لم يغادِرها أحدٌ إلّا إلى الجنّةِ أو إلى النّار. وكانَ للعِبادِ رحمةٌ من ربهم عظيمة، فمِنَ المؤمنين العُصاة الذين سترهم اللهُ في الدنيا، ثمّ سترهُم في الآخرة، ومنهم من نُسِفتْ خطاياهُ رحمة من عندِ الله. فما أحوجَ العبدُ يومها للرحمة، وما أحوجه لحسنة، وما كانَ ليَضيعَ من عملٍ قمنا بهِ، أكان خيراً أم شراً. فما أصعب انتظارُ مصيرك، ما أصعبها مِن لحظات، فلا عودةٌ يومها للدنيا من أجلِ عملٍ صالح، ولا ندمٌ ولا شفاعةٌ تغنيك من الله بشيء..
وما شهدْتُ لحظةً أشدُّ رُعباً وهولاً من حينِ نادى منادٍ، أينَ فُلان ابن فلان، فعلمتُ نفسي! وما شعرتُ إلا بصاعقةٍ مِن الخوفِ أصابتْ قلبي، وعلمتُ أنّهُ قد حان موعدي، فإلى أينَ مصيري!
عمرو بكور
0 تعليقات