المرأة لا تتوقف عن الحُب



بعد أن مضى على فِراقنا خمسة عشر عامًا خُيِّل لي أني محوته من ذاكرتي، لكنه لم يحدث ولا يمكن أن يحدث هذا، حتى لو مر على فِراقنا أعوامًا مديدة في عيد ميلاده الستون. وددتُ لو أنني بجانبه؛ لكن لا أستطيع فهو متزوج! وفكرتُ لو أن أرسل له باقةٌ من الورد المفضَّل لديه دون الإفصاح عن اسمي؛ لعله يتبسم، ويرتقص أنفه؛ ليشتم رائحة عطريّة مميزة تفوح من ورد النرجس. لكن تذكرت أنه لم يعد يعنيه الورد شيئًا؛ لقد أكل الزهايمر من ذاكرته هذا الجزء! فهذا يحدث، على كل حال إنها بعض الورود لا بأس إن لم يعد يتذكرها.
فخطرت لي فكرة أخرى: "أن أرسل له فطائر السبانخ الشهية، إنَّها وجبته المفضلة ما زلت أذكر هذا، على الرغم من أنَّه مضى على فِراقنا الكثير"، فأعددت الفطائر بيديَّ، أعددتها من أعماقي؛ وهذا كلّه من أجله؛ قد كان زوجي وما زال يعز على قلبي. طلبت من الموظفة أن ترسلها  إلى مكتبه ثم، تذكرت أنه أصبح يُعاني مؤخرًا من حساسية مُفرطة اتجاه السبانخ! تلوع قلبي، وما زلت أفكر في هدية تُفرح قلبه المُهترئ، وتشفي القليل من قهري على فراقِه؛ فاعددتُ له قالبًا من الحلوى، وزينته بأجمل الزينة، وأضفت الألوان عليه؛ لعلَّها تفرحه وتبهجه.
أخذت الهاتف أنا بنفسي وأجريت اتصالًا على مكتبه؛ فردّت مساعدته، كلمتها وأخبرتها أني أحد العملاء القدامى، وأريد أن أرسل للسيد قالب حلوى كهديه عيد ميلاد؛ لترد عليَّ المساعدة: "نشكرك جزيل الشكر، لكنَّه أصيب بالسكري، ولا يستطع أن يأكل الحلوى هذه الفترة".
فاغلقت  الهاتف وشعرت أن شيئًا ما تهشّم في قلبي، رغم أنه لم يبقَ شيء من قلبي ليتهشم.
بالنهاية، قررت أن اذهب أنا بنفسي وأكون هديته في عامه الستون، ربَّما سيفرح قليلًا حينما يرى أني ما زلت أحبّه؛ رغم قسوته معي في السابق!
تجهزت وارتديت أجمل الثياب، تزينت  كثيرًا، وصففت شعري وكأنني في العشرين من عمري، لكنّها نار الحب تغلي في عروقي، فكيف لا أتزيَّن لمن كان سُلطانًا في قلبي!
وصلتُ، ودخلت مكان عمله، فطلبت منّي الموظفة أن أستريح بعض الشيء؛ لتخبره أنني أود لقائه. انتظرت للحظات، وعادت لتقول لي: "تفضلي إنَّه "، رتبت نفسي، ورتبت خطواتي المتبعثرة، أخذت نفسًا عميقًا جدًا؛ وكأن الهواء الذي كان يملأ المكان دخل كله داخل أنفي! أخذت أسير بالممر، وصار الآن مقابلي بوابة مكتبه، طرقت الباب طرقة خفيفة.
ليرد عليَّ بـ: "تفضلي".
كان ظهره مواجًا لي، رأيته للمرة الأولى منذ خمسة عشر عامًا، وما زال على نفس الهيئة، شعرت أنَّ قلبي قد سقط وارتطم بالأرض، وذهبتُ بعيدًا في ذاكرتي، لأعود بسرعة إلى رشدي؛ من شدة ارتطامه، وما زال ظهره أمامي، رجوت الله أن يَهبني قوة قلبٍ؛ لأقدر على رؤيته. أخذ يستدير إليَّ، وعندما أصبح أمامي، حدقت عيناي بوجهه، أخذت أتصفحه بدقة، غرقت عيناي في تفاصيله؛ إنَّها ما زال فاتنة رغم كِبَره! تأملت تجاعيده، وشعره الذي أصبح أبيضًا بالكامل، لا يمكن وصفه، لم أستطع أن أرمش، ولم يتحرك جفن عينيّ أبدًا لدقائق عديدة، لاستيقظ من شرودي على صوته وهو يقول: "المعذرة، من أنتِ،
وكيف أساعد حضرتك؟"
هُنا تمزق قلبي، وكأن أحدهم غرس في عمقه سكينًا حادةتفتت أحشائه، صارت الرؤية مغبّشة، مالت قدماي رويدًا رويدًا؛ لتعلن سقوطها، فارتطمت بالأرض باكية، ما استطعت أن أصمُد أمام من أحب، وهو لا يتذكرني، يا رباه! كيف لمرض الزهايمر أن يُنسي الشخص نفسه وروحه! زوجته الذي طلقها قبل خمسة عشر عامًا؛ لأنها عقيمة -لا تلد-! كنت أود أن أخبره أني ما زلت غارقة في حُبه، كنت أود أن أقول له أني سامحته على ما فعل، كنت أود أن أقول الكثير له، وتحديدًا أني أستطيع الإنجاب أخيرًا، رغم كُبر سنّي! وإنَّا بإمكاننا أن نصبح عائلة، لكنه لم يتذكرني بتاتًا!


نور جرادات 

إرسال تعليق

0 تعليقات