قبل أن يدخلوني إلى مستشفى الأمراض العقلية عنوةً.. كنت أحاول إقناعهم بأنك لم تتركني وأن كل هذا كان تمثيلاً وأنك تحاول الإيقاع بي لتزيد حبك في قلبي.. وفي كل مرة كانوا يصدونني ويقولون أنك سافرت وبالحقيقة كانوا يستعملون عبارات جارحة أكثر.. ك" هرب من كثرة عنادك".. و "لم يصدق أن استقل أول طائرة وهرب من هنا".. أو أنك تقول بينك وبين نفسك " الحمد لله أنني ابتعدت عن تلك الحمقاء".. وأنا كنت أحاول أن ألطف هذه الكلمات داخل عقلي..
كل هذه الكلمات لم تؤثر بي.. فأنت كنت أول من قال لي كلامً من الغزل.. وأول من طلب مني الخروج في موعدٍ غراميّ.. لم أتوقّع يوماً من الأيام أن نستقل السيارة ولكن كلّ منا يتجه الى مكان.. أنت إلى المطار لتحقيق الحلم الذي طالما حلمنا به سوياً.. وأنا إلى مستشفى الأمراض العقلية..
حاولوا إقناعي مراراً أنك لن تعود.. أعطوني أدويةً لأنام.. وأدويةً لأهدأ فقد كنت دائماً مصدراً للقلق لجميع الموجودين في المستشفى.. فاسمك لم ينزل عن لساني.. كنت طوال الوقت أتكلم عن الأماكن التي جمعتني بك.. وعن الأكلات الجديدة التي تذوقتها معك.. وعن الأغاني التي كنت تغنيها لي.. وباءت كل محاولاتهم بالفشل.. كان العلاج لا يجدي نفعاً..
وذات يوم في موعد زيارة الطبيب قررت أن أمثل النوم عليهم لكي لا يتفوه هذا المعتوه بالأكاذيب عنك.. وبينما أنا مغمضة العينان ومغطاة من رأسي إلى قدماي.. سمعت الطبيب يتحدث مع الممرضة ويقول لها:" انتبهي لا يجب أن تعرف بهذا الخبر إحرصي أن لا يتكلم معها أحد أو أن يزورها أحداً غير أفراد العائلة ولتكن الزيارة مقتصرة على بضع دقائق فقط".. "لا تقلق ستنفذ أوامرك أيها الطبيب".. وبعد ذهابهما جلست أفكر ماذا يخفيان عني وما الذي لا يجب أن أعرفه..
بعد دقائق تدخل فتاة يقولون عنها مجنونة تجلس قربي وتقول لي:" اقتربي بسرعة لا يجب أن يراني أحدٌ هنا سأقول لكِ شيئاً مهماً".. قلت لها: من أنت وماذا تريدين مني؟".. قالت:" هذا ليس مهماً المهم أنني سمعتهم يقولون أنك والمريض الذي في الغرفة المقابلة لا يجب أن تتقابلا وجهاً لوجه وأنه لا يجب أن يتذكرك المريض مهما حصل لكي لا يعودوا إلى نقطة الصفر في علاجك".. قالت كلامها وفرّت هاربةً بسرعة البرق كي لا يراها أحد المراقبين..
كلامها لم يفارقني أبداً طوال يومين فقد أصدروا قرارا بحجزي في غرفتي لمدة أسبوع.. لم أُقاوم فقد كنت منهكة من كثرة الأدوية.. ولكن كلما رأيتهم من النافذة يفتحون الباب المقابل لغرفتي انتابني القلق فلم أكن أستطيع الرؤية بوضوح وكنت أريد بشدة أن أرى من هو هذا المريض الذي يخفونه عني وكنت متأكدة أنه سبب حجزي..
إلى أن وقفت في يومٍ على نافذة غرفتي ولمحت شخصاً جديداً لم أره من قبل في المستشفى وكان يرتدي ملابس كالتي يرتديها المرضى.. أحسست بالذعر الشديد.. زادت دقات قلبي.. أحسست أنني أريد أن أطير من النافذة لكي أتأكد مما رأته عيناي.. كان هو.. أجل هو.. حب حياتي.. من تركني وهرب كما يقول الآخرون.. صرخت بأعلى صوتي وناديتك باسمك.. وما أن سمعت صوتي حتى التفت اليّ وفي تلك اللحظة أدرك جميع العاملين في تلك المستشفى أنهم أضاعوا الكثير من الوقت معي دون نتيجة..
بعد دقائق معدودة جمعونا في غرفةٍ واحدة.. وكنت قد عرفت قبل هذا أن الطائرة التي سافرت بها عندما تركتني قد تعرضت لحادثٍ ونظراً لقوة الحادث فقد أُصبت بحالةٍ نفسية جعلتك تفقد القدرة على الكلام أو التواصل مع أي شخص.. ما أجمل هذه اللحظة فقد استطعت احتضانك بعد كل هذا الوقت وكنت أنا الشخص الوحيد الذي كنت تتمنى لقاؤه بعد تلك الحادثة..
اعتقدت أنني قادرةً على نسيانك... اعتقدت أنني أستطيع تخطي كل شي... اعتقدت أن الايام كفيلة بأن تصلح كل شي... لكنني اكتشفت انه ليس دائماً يمكنك إلغاء قلبك والتفكير بعقلك.. لا تنجح المحاولة دائماً.. لا يمكن لأحد أن ينسى حبه الحقيقي... نحن دائماً نتناسى لكن لا ننسى... لأن الحب الحقيقي لا يُنسى.
حوراء عيسى
1 تعليقات
جميل... وغير مكرر... ❤... أكتبي شي في فرح أكتر نيو
ردحذف