عندما تحطُّ الحرب أوزارها على بلد عريق على بلد مكافحٍ، تحرق ألسنةُ لهبها ما تحرق وينير ضوء نارها ما يضيء، فالحرب هي الخيار المرّ الذي نُجبَر عليه وندفع تكاليفه من حاضرنا ومستقبلنا، الشرّ الذي لا بد منه في زمن الأشرار، والطريق الذي لا بدّ أن نسلكه لنحصل على ما نريد بالقوّة.
ولكن الطفولة في الحرب هي الشعرة التي تقصم ظهورنا ونقطة ضعفنا التي تستنزف قوّتنا وتدمي قلوبنا، فالسنوات التي تمر عليهم تؤخذ منهم مرة وتُنتزع منا مرتين.
بحكم العمل وكثرة التنقل وانجذاب النظر نحو الصغار كثيرًا، ما بين حبهم والأسف على فراغ أيامهم،ما بين الدهشة لفطنتهم والألم على عدم استثمارها بشكل صحيح.
رأيتُ في زحمة تلك الأفكار فتاةً صغيرةً ذاهبةً للمدرسة في مشهد لطيفٍ جدًا، يبعث على الأمل بكل ما احتواه، ولعل حجمها الصغير وعفويتها الطاغية كانت تخبرني بطريقة ما بأنها سنتها الأولى في المدرسة أي بداية المشوار.
كانت تحمل كتبها الثقيلة بهمتها العالية وعود طفولتها الغضّ في كيس بلاستيكي ورغم بساطة المشهد، لكنه عنى لي كثيرًا في ظل الظروف المُعاشة،فما بين التمسك بالعلم الظاهر بوضوح الذي يبدو أنها تُربى عليه، ودفع أهلها لها رغم الإمكانيات الضعيفة التي يشير لها الكيس البلاستيكي القديم المحتضن للكتب، تجلى هذا المشهد باحترامٍ أمامي، فالحادث في بلدي بأن الحرب في فترةٍ طويلةٍ منها جعلت العلم موضةً بالية، والمتمسك فيه كمن يلحق سرابًا لن ينفعه.
بعدما مشت الطفلة خطواتٍ عدة في عجلة، استسلم الكيس القديم لقوّة العلم وفاقت طاقته لما يحمله وسقطتْ الكتب أرضًا واندثرت، فداست قدمها الناعمةُ التي تنتعل حذاءً نالت الطرقات من معظم أجزائه إحدى الكتب،فوقفت مرتعبة لا تدري ما حدث وداهتمتها رجفةٌ قوية وكأنها ارتكبت ذنبًا تخاف عقابه، وأخذت تلملم الكتب سابغةً إياها بدموعٍ احمرّت لها عيونها وترطّبت بها وجنتاها، ثم ما كان منها إلا احتضنت كتبها بين عضديها بقوّةٍ وعادتْ أدراجها يسلّيها صوتُ بكائها في يومٍ مدرسيٍّ انتهى قبل أن يبدأ.
وأنا أراقب ذلك وقد ثارت في داخلي عواصفٌ من العواطف، وأتعبت عقلي أسرابُ أفكارٍ مهاجرةٍ وكل ذلك جعلني متسمّراً في مكاني لا أستطيع الحراك.
لعلّ قدمها لم يكن لها أن تكتفي بالدعس على الكتاب فقط، بل وكل أفواه المتحدثين باسم الشعب والطفولة في هذا البلد وكل أفواه القضاة والولاة العصاة، ولهم شرفٌ في أن تدعس أفواههم قدمُ هكذا طفلةٍ، علّها تخفف عنهم لظى نارٍ مستعرةٍ لا يخلّصهم منها أحدْ، وعليهم العار فيما حدث فأنّا لطفلة من الرعية يحدث لها ذلك ولها راعٍ يتشدّق برعايتها على الملأ.
الحرب قدرٌ وعلينا لله الرضا به ، ولكن ما يحدث في داخلها لن يمرَّ مرور الكرام أبدًا، فالكيس شاهدٌ وكذلك قدم الطفلة وكُتبها وكلَّ الأفعال والأقوال والوعد الكاذبة، نحن إما ننتصر أو نفنى ولكن الله ينتصر ولا يفنى ينتصر للطفلة وأغراضها ولا يفنى عن عقابهم جميعًا.

0 تعليقات