ومن الحب ما ينسى.



 في جلسة يسودها الهدوء في ذلك المقهى الصغير الذي يقع على مفترق طرق كانت ميرا ترتشف قهوتها وتجلس في مكان قريب من المدفأة والمطر الغزير لا يتوقف في الخارج، مرّ وقت طويل منذ آخر زيارة لها لهذا المكان فقد اعتادت أن ترتاده برفقة شخص تعاهدت معه أن يكملا الطريق سوياً ولكن منذ غيابه لم تستطع مواجهة الأعين التي اعتادت رؤيتهما معاً.
 

في المقهى مقابل ميرا تجلس فتاة مراهقة ولهفة الانتظار تظهر عليها فكلما مرّت ثانيتان نظرت إلى ساعتها وكأن من تنتظر تأخر عن موعده، وفي الزاوية شابٌ يشرب القهوة وأعقاب السجائر دليلٌ على المعركة التي يقيمها مع النسيان، وفي المقلب الآخر رجلٌ عجوز يضع صورةً لزوجته التي توفيت في ذكرى زواجهما على الطاولة أمامه ويتحدث معها ويخبرها تفاصيل يومه.

 

فجأةً يدخل رجل طويل القامة، أسمر اللون، يخالط الشيب شعره، ذو لحية مهذبة، يهدي النادل ابتسامةً صغيرة ثم يتجه إلى الداخل، وبينما هي تكمل جولتها الاستطلاعية وإذ بالعيون تلتقي، وإن بالقلوب تخفق من جديد، لم يكن في بال أي منهما أن يلتقيا من جديد.

سيطر السكون على المكان، توقف الوقت في هذه اللحظة، تجمدت هي في مكانها، لم تعد قادرة على التفكير فيما ستفعل، هل ستسمح له بأن يرى الجانب الضعيف منها والذي حاولت إخفاؤه طوال السنوات الماضية، هل سيتقدم نحوها؟ هل ستقبل أن يكلمها وتعطيه فرصة لتبرير ما حصل؟ أم تحاول الهرب لأنها ما زالت تكن له مشاعر من الحنين ولا تعرف ما إذا كانت قادرة على مواجهته. ما الذي أتى به بعد كل هذا الوقت، بعد كل تلك الأيام التي بكت فيها وحيدة بسبب بعده وسفره.


هو يمشي نحوها بخطوات ثابتة وهي دقات قلبها تتزايد مع كل خطوة يخطوها، وتحقق مرادها، ها هو يقف قربها، حاولت أن تتماسك، وإذ به يمد يد السلام لها، وها هي تضع يدها بيده مرة أخرى ولكن هذه المرة كانت مختلفة قليلاً، فبينما ترتعش أناملها من لهفة السلام فالبرود كان يسيطر على سلامه، وعيناه تنظران إلى عينيها بكل ثقة كأنما شيئا لم يحصل وكأنما لم تمر تلك السنوات الخمسة من العذاب.

 

فجأةً تسمع ميرا صوتاً صغيراً ينادي الرجل البارد وإذ بها تتجمد فجأةً وتسمع طفلةً تقول: "أبي انتظرني ها أنا قد أتيت" تظهر بفتاة صغيرة بعمر الأربع سنوات تظهر متأنقة بفستانها الزهري المصنوع من الصوف فقالت له ميرا والصدمة تظهر على ملامحها: "هل تزوجت؟" فجلس على الكرسي ووضع الفتاة الصغيرة في حضنه ثم قال لها بكل برود:" نعم تزوجت بعد سنة من سفري بسبب إصرار أمي"


وساد الصمت مجدداً لوقت قصير إلى أن قالت الصغيرة لأبيها: " أبي من هي هذه المرأة الجميلة التي جلسنا معها؟" رد عليها قائلا: "إنها من هنا من نفس القرية لكني لا أعرفها كثيراً اذهبي وشاهدي التلفاز هناك  وسأناديكِ بعد قليل" هنا لم تعرف ماذا تقول وكيف سترد عليه!! لقد أنكر معرفته بها بعد حب دام أكثر من ثلاث سنين!! كيف أمكنه أن يمحي كل تلك الذكريات وينكر كل شيء!!


حاول كسر جدار الصمت بقوله: "لا تاخذي كلامي على محمل" قاطعته قائلةً: " لا تحاول التبرير هذه حياتك الخاصة." رد عليها بقوله:" إنها طفلةٌ صغيرة لن تفهم شيئاً" فأكملت: "أرجوك دعني أكمل، لا شأن لي بها ولا بحياتك وليس لي الحق بأن أعاتبك فقد مرت السنوات الخمس السابقة وجعلتك لا شيء بالنسبة لي ولكن أتدري ما الذي يحزنني؟" قال لها:"ماذا؟" قالت:" أشفق على تلك العائلة التي تديرها وأشفق على تلك الفتاة الصغيرة التي تعتبرك قدوةً لها لأنك في يوم من الأيام ستتركها وستخونها فمن فارق مرة سيفارق مجدداً ومن خان مرة لن يكون من الصعب عليه أن يخون مرة أخرى"


وتركت مقعدها وغادرت المكان بخطوات واثقة دون أن تترك له الوقت للرد على كلامها ولم تحاول النظر إلى الخلف لأنها اعتادت أن تنظر أمامها وأن تنظر لمستقبلها لا أن تنظر لماضيها.

‎أما هو فقد بقي في مقعده حصةً من الوقت مصدوماً بما حصل، لم يستطع النطق بحرف واحد، كيف استطاعت أن تكون قويةً هكذا، ولم يستيقظ من صدمته إلا على صوت تلك الصغيرة قائلةً له:" أبي لنعد الى المنزل فقد اشتقت لأمي" فأمسك يدها الصغيرة ومشيا دون أن يقول أي كلمة.

حوراء عيسى

مجلة أزرق - العدد 14

إرسال تعليق

0 تعليقات