سكتة أدبية




ثلاثةُ أشهرٍ مبتعداً عن مائدةِ الأدبِ والكتابةِ!
لم أعدْ لملءِ الدواة حبراً كعادتي ، فما عادتْ الريشةُ تقوى على خطّ الحروفِ ورسمِ انحناءتها ، أظنُّ أنِّها أصابتني سكتةٌ ستطولُ ربّما أكثر .
هرعتُ إلى بطونِ الكتبِ وصفحاتِ التاريخِ خائفاً وجلاً ،هل أجدُ من أصابتهُ سكتةٌ مشابهةٌ لما أصابَ روحي وقلمي؟هل يعقلُ هذا؟ هل تخلعني عباءةُ الحروفِ وتتركني وحيداً بعدَ سنواتٍ طوالٍ؟
آهٍ لقدْ وجدتُ الكثيرَ ، فهذا نجيبُ محفوظٍ قد وقفَ عن الكتابةِ وقفةً طويلةً بعد ثلاثيتهُ الشهيرةَ ، حتى ظنَّ أنَّهُ لن يكتبَ حرفاً واحداً ،وذاكَ (جروم سالنجر) الذي لزم الصمتَ لأكثرَ من ثلاثينَ عاماً بعد أنْ خطَّ بيديهِ أربعةَ كتبٍ شهيرةٍ .
هنا السؤالُ الذي يتبادرُ للأذهانِ.هل يصابُ الكاتبُ بسكتةٍ أدبيةٍ ؟وهل ينزلقُ في متاهاتِ الركودِ الفكريِّ ؟هل يركنُ إلى الوحدةِ وحروفِ الابجديَّةِ حولهُ التي تتراقصُ على أنغامِ حيرَّتهِ؟
والجوابُ: نعم، قد يتوقفُ الكاتبُ على حافَّةِ الحرفِ ، يتوقفُ قليلاً ليأخذَ نفساً عميقاً ليعودَ من جديدٍ ، وقد يبتلعُ الهواءَ المحيطَ بأنفاسهِ فيختنقُ بهِ فلا يزاوجُ مابينَ الورقةِ والدواةِ ، وهذا ماحدثَ قديماً مع الشاعرِ الفرنسيِّ (رامبو) الَّذي توقفَ بعمرِ التاسعةِ عشرَ بعد كتابهِ الثاني إلى الأبدِ.
كيفَ يتغلبُ الكاتبُ في حياتهِ ومنعطفاتهِ على السكتةِ الادبيَّةِ ؟
تقولُ (ايزابيل اللندي): تقهرُ سكتتَها المؤقتةَ بكتابةِ شيءٍ من نوعٍ آخر، ربَّما مقالٍ أو رسالةٍ إلى صديقٍ ، وهذا ما دفعهَا إلى كتابةِ (أفروديت)بعيداً عن عالمِ الأدبِ والمرأةِ .
-إنَّ القلمَ كما الإنسان يشبُّ فتياً ثمَّ مايلبثُ أنْ يتعبَ بعد أنْ يضنيهِ عناءَ الطريقِ ، وغبارهُ.





الألمُ الَّذي يعششُ برئتيّهِ، لذلك لابد لهُ من استراحةٍ كما استراحةِ المحاربِ المقاتلِ في الصفوفِ الأولى، فالكتابة: حالةٌ شعوريَّةٌ يَمرُّ بها الإنسانُ تخضعُ لتأثيراتِ الروحِ من الداخلِ ومايؤثرُ عليّها من الأحداثِ والمجرياتِ ،فهي وليدةُ النفس والمحيطِ،وبعضُ الأحداثِ وقعُها على النفسِ عظيمٌ يستحيلُ معها الكتابةَ ، وبعضُها يخلقُ حسَّ الحرفِ وصداهُ يجعلنا نهرعُ إلى دواتِنا وأقلامِنا ، فيعانقُ الحرفُ الورقَ في مشهدٍ فريدٍ على مسرحِ الحياةِ يعقبُ ذلك تصفيقاً وصفيراً أمَّا أولئكَ الَّذين يطلِّقون أوراقهم ويكسرونَ أقلامَهم ويحرقونَ كوخَهم الخشبيَّ بكلِّ مافيهِ ويفرِّغونَ الذاكرةَ من كلِّ شيءٍ ، لمْ يتوقفوا عن الكتابةِ إلاَّ لأنَّهم يأسوا من جدوى الحرفِ ، وخابَتْ ظنونهم من أعينِ القرَّاءِ ، فلم يجدوا آذاناً صاغيةً وقلوباً شغوفةً برونقِ حرفهم وظلِّهِ.
-البعضُ يحترقُ كلَّما رأى (الحبَ في الغسالةِ) في أهمِ المعارضِ الأدبيَّةِ ، ويرى كتباً تتصدرُ عناوينَ الصحفِ والمجلاتِ مكتوبةً بلغةٍ أدبيَّةٍ رخيصةٍ وحتى باللهجاتِ المحكيَّةِ ، ليسَ لقيمتها ومحتواها وإنَّما لأنَّ صاحبها قد دعمتهُ السلطةُ وجعلتْ من كتابهِ قرآناً يتلى -والعياذُ بالله-وألزمتْ بهِ الرعاع.
-إلى متى المالُ ودورُ النشرِ تجعلُ من الرويبضةِ علماً ومن الجاهلِ منارةً للأجيالِ ؟ وهل تطورُ علومِ وفنونِ التسويقِ الالكترونيِّ والشخصيِّ تلعبُ دوراً حاسماً في ذائقةِ المتلقينَ والقراءِ؟
إنَّ ماحلَّ بالأدبِ العربيِّ في الفترةِ الأخيرةِ شيءٌ يندى لهُ الجبينُ ، حيثُّ ركبَ هذا الرَكبُ من لا يتقَنُ العربيَّةَ، وأخذَ بناصيةِ الروايةِ والأدبِ إلى منحدرِ العاميَّةِ التي تخلو من سحرِ العربيَّةِ وبلاغتِها ، وأغدَقَ على كتبهِ الأموالَ حتَّى يحجزَ لها مكاناً على الرفوفِ ومقعداً بينَ الزِحامِ .
-هذا ماجعلَ البعضَ يكسرُ قلمَهُ ويتوبُ إلى اللهِ من هذا الذنب، فكانَتْ سكتةٌ أدبيَّةٌ لاتجدي معها كلُّ الأدويةِ والترياقاتِ.
ويبقى السؤالُ مالحلُّ ؟ ومالسبيلُ؟ يبقى دونَ إجابةٍ واضحةٍ ، كلٌّ لهُ رأيَّه ومعتقدَهُ ، وبرأيِّكَ ماهوَ السبيلُ لتخطي هذهِ السكتةُ والعودةُ من جديد؟





علاء المحمود


إرسال تعليق

0 تعليقات