رسائلُ على رفوفِ الذكريات










كان يَخلعُ نعليه، ثمّ يَدخل بقدمِهِ اليُمنى فاليُسرى، يُصَلِّي تحيةَ المَسْجِد، يَقْرَأُ ما تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ القُرْآن، وبَعْدَ كُلّ آيةٍ تَتَحدَّثُ عن نَعِيمِ الجنّة يُقاطعُ نَفْسَه قائلاً سُبْحانكَ ربّي ما أعظمَ عطاياك، ربّي لا تَجْعَلْني عاصياً.. لا تجعلني شقيّاً، يا ربّ لا تَجْعَل مِنْ ذُرّيّتي مَنْ يَعصيكَ ولا يُطِيعُكَ ويُعظّمُك، يَنْتَهي مِنْ قراءة القرآن، ليُكَبِّرَ تكبيرةَ الإحرام، يقفُ خَلْفَهُ الكثيرُ مِنَ الرجالِ ليُصَلّوا صلاةَ الظُّهْر، أَجْلسُ أنا في زاويةِ المسجدِ أنْظُرُ لهذا الرجلِ العظيمِ الّذي يُقدّسُ اللهَ بهذا الشكل، أُحَمْلِقُ بحركاته، وبَعدَ مُدّةٍ زمنيّةٍ قليلةٍ بدأتُ أُقَلّدُ هذا الرجلَ العظيم، أسيرُ مِثْلَهُ بِتواضعٍ والابتسامةُ تملأُ شفتَيّ، أتحدّثُ مثلَهُ، أُمْسِكُ القُرآنَ الكَريمَ بذاتِ الطريقة، وذاتَ مَرّةٍ وَجَدَني ساهياً وغائباً عَنْ هذه الدُنيا، فقالَ لي يا وَلَدِي ويا قُرّة عَيْني، كُنْ مُطِيعاً لله وَسَتَجِدُ مَنْ يُحبّكَ، كُنْ عَبْداً مُخلصاً لله وَسَتَجِدُ مَنْ يُخْلِصُ لك، فاللهُ إذا أَحَبَّ عَبْداً جَعلَ كُلَّ العبادِ تُحِبُّه، يا بُنَيّ اجعلِ القرآنَ حَلِيفَك، وأَقِمِ الصلاة، أَحِبَّ فتاةً تُنْجِبُ مِنْ صُلْبِك أبناءً تُحِبُّهُمْ كَما أَحْبَبْتُ أُمَّكَ وَأَنْجَبَتْكَ مِنِّي، رَحِمَها اللهُ، كانَتْ أَجْمَلَ ما عايَشْتُهُ في حَيَاتي بأَكْمَلِها، يا بُنَيّ عِشْ يَومَكَ بسعادَةٍ وكَأَنَّهُ آخرُ يَومٍ تَعيشُه، وهكذا انْتَهَتْ وصايا أبي كَمَا انْتَهَتْ حَيَاتُهُ أَيْضاً، حَيَاتُهُ كانَتْ مَلِيْئَةً بِحُبِّ اللهِ وطَاعَتِه، يا أَبِي.. حياتي مِنْ بَعْدِكَ لَيْسَتْ كالحياة.. أفتقدُكَ كثيراً..





الأَبُ هُوَ رفيقُ الطفولة، سندٌ في المُراهَقَةِ، وَحَبِيبٌ في الشَبَاب، وكُلّ شَيْءٍ في ما بَعدَ الشباب، أبي كانَ أَعْظَمَ رَجُلٍ رَأَتْهُ عَيْنِيْ قَطُّ، أبي كانَ يَرى الخطأَ ويُحاوِلُ دائماً أَنْ يَجْعَلَ الخَطأَ صواباً، و لَهُ أساليبُ جميلةٌ عندما يُقَدّمُ نصيحةً لك، أبي اختَصَرَ البشريّةَ بأَكْمَلِها وأنا على نَهْجِ أبي سَأَسِير، سأُقيمُ الصلاةَ وأتعَلّمُ العلومَ النافعةَ، سأَتَزَوّدُ مِنَ العِلْمِ كما وَعَدْتُه مِنْ قَبْلُ، سَأَعْمَل، سَأُحِبّ، سَيَكُونُ أبي بِداخِلِي مَا حَيِيْت..





كفا الرفاعي


إرسال تعليق

1 تعليقات