ابنةُ الموت


قِصَّةٌ قصِيرةٌ









عندَما قاربَتِ السَّاعةُ السَّابِعةُ صباحاً استيقظَتْ تالا على أصواتِ قرعِ البابِ.





تساءَلَتْ في نفسِهَا مَنْ سيطرِقُ البابَ في هذا الوقتِ الباكرِ ؟





مَنْ على البابِ..؟





أنا..





تمتمَتْ في سرِّهَا لم أسمعْ مثلَ هذا الصَّوت من قبل وما أنْ فتحَتِ البابَ حتَّى رأَتْهُ يقِفُ كجُلْمُوْدِ صَخْرٍ ، مُنتَصِبَ القَامَةِ ، عاقِدَ الحاجِبَيْنِ ، مُختالٌ بنفسِه.. ، فهُوَ على يقِينٍ بأنَّ كُلَّ بابٍ يُفْتَحُ لَهُ سيكونُ مصيرَ صاحبِهِ الموتَ.





تالا تِلكَ الفتاةُ الجميلةُ المعرُوفةُ بشجاعتِهَا وجلَادَةِ قلبِهَا حتَّى لُقِّبَتْ بابنةِ الموتِ .





حدجَتِ الزَّائرَ بنظرةِ استغرابٍ ثُمَّ باغتَتْهُ بقولِ صَباحُ الخَيرِ.. ، تفضَّل..





وقفَ مُتَلَعْثِمًا حائِرًا كيفَ تسمحُ لَهُ بالدّخُولِ وهيَ لا تعرِفُهُ.





عرَّفَ عَنْ نفسِهِ..





أنَا مَرَضُ العَصْرِ.. كَوْرُوْنَا





لم يهتزْ لهَا شعرةٌ ، كُنْ مَنْ تكُنْ أنتَ في ضيافتِي.. تفضَّل.





دَخَلَ الزَّائِرُ وجَلَسَ عَلَى الأرِيْكَةِ يتأمَّلُ المكانَ ظَنًّا فِي نفسِه أنَّه سيُلْبِثُهُ ثوبَ العَزاءِ بعدَ خُرُوجِهِ ، قاطَعَتْهُ تالا وهي تدعُوهُ لاحتساءِ القهوةِ لكنَّهُ نَظَرَ إليْهَا باستغرابٍ ، قائلًا: سأترُكُكِ لتفعلِي ما تُرِيدِينَ وبعدَ ذَلِكَ ستلحَقِي رَكْبَ ضَحَايَاي.





كانَتْ لُغَةُ العُيُونِ هيَ اللُّغَةُ النَّاطِقَةُ بلِسَانِ تالا، فَرَمَقَتْهُ بنظرةٍ رافِعَةً حاجِبَهَا باستهتارٍ مُتَمْتِمَةً "رُبَّما"..





بادرَهَا بالسُّؤالِ..لِمَاذَا لُقِّبْتِي بابنةِ الموتِ.؟!





لِتَعتذِرَ عَلَى الفَوْرِ ، فهذا الوقت لا تُحَبِّذُ فِيهِ الإجابةُ ، وتَقُولُ : إنْ كُنْتَ تُرِيدُ معرِفةَ الجَوابِ انتظِرْنِي نصفَ ساعةٍ ، نتحدَّثُ في وقتٍ لاحقٍ





أَتَظُنِّينَ أنِّي سأترُكُكِ ربعَ ساعةِ بعدُ..!!





الأمرُ مَتْرُوكٌ لَكَ إنْ أردْتَ الإجابةَ ستعرِفُها بعدَ نصفِ ساعةٍ.





يكبِتُ لجامَ غضبِهِ وهُوَ يقُولُ بامتعاضٍ : ولِمَاذا لا تُنَادِينِي باسمي.؟!





حرَّكَتْ فمَهَا باستهزاءٍ وقالَتْ: أعلمُ أنَّكَ لا تُحِبُّ الشّهرةَ...هلَّا خرجْنَا للمشي قليلًا فالطَّقسُ جميلٌ وهَا هيَ الشَّمسُ تخِيطُ أوَّلَ أشِعَّتِهَا ، والهواءُ يُدَاعِبُ أشجارَ الياسمينِ لِيملأَ عطرَها الأرجاءُ...





نفِذَ صبرَهُ وقلبَهُ كَالبُركانِ يشتعِلُ لِمعرِفَةِ الإجابةِ....مَا السِّرُّ يا ترى الَّذِي تُخبِّئُهُ تِلكَ الفتاة وراءَ برودِ أعصابِها هذا...!!!





أجابَها: حسنًا عشر دقائِقَ لا أكثرَ





حسنًا





منذُ سبع سنينٍ زارَنَا ضيفٌ ثقِيلُ الظِّلِّ مثلكَ يُدعَى "حرب"...





جَعَلَ روحَ هذه المدينة تكتظُّ بالزُّعرِ لم يبقَ معلَمٌ مِن معالِمِهَا إلَّا وأبكَى قلبَهُ.





انظُرْ أمامَكَ إلى هذا الجدار المُتَّكِئ على نفسِهِ يأبَى السُّقوطَ ، كانَ لَهُ ثأرٌ معَهُ كلَّمَا أشعَلَ نيرانَهُ لكَمَهُ لكمةً ، ففي إحدى الأيَّام كدْتُ للتَوِّ خارجةً من المنزلِ وإذْ بصارُوخٍ مِن أبنائِهِ يُدَاعِبُ خصلات شعري ويسقطُ أمامَهُ مباشرةً ، بينِي وبينَهُ بضعةُ أشبَارٍ ولكنَّه لم يقتلني.





-كُوْرُوْنَا أصابَهُ الخرسُ في قلبِهِ ، وتالا تروِي قصَّتَها بشُرودٍ معَ الماضي الأليم ، تسقطُ بعض العَبَراتِ فتمسحُهَا بابتسامةِ الأملِ.





وخطواتُهُم ترنُو إلى ساحةِ المدينةِ مُكَمِّلَةً حديثَها





وما أن مضَى على هذه الحالةُ ثلاثةُ أيَّامٍ وأنا في طريقِي إلى منزلِ جدَّتِي لأطمَئِنُّ على صحَّتِها لم أرَ إلَّا شقيقتَهُ الكبرى تجوبُ السَّماءَ كَالبُومَةِ الَّتِي لا تُبَشِّرُ إلَّا بالخرابِ ، كَيْ تولدَ لنَا برميلٌ كانَتْ تحتضِنُهُ هذه الحفرة الَّتِي أمامَكَ لِيأتِيَ لطفَ اللهِ الَّذِي نخفَاهُ ، ويجعلَهُ يهوِي مُسْتَلْقِياً على ظهرِه دونَ أنْ ينفجِرَ وأنا هَا هُنَا لم أمُتْ.





أصابَتْهُ الحرارةُ في جسدِهِ ، وارتجافٌ في أطرافِهِ السُّفْلِيَّةِ ، لكنَّهُ جبَّاراً يخفِي ألمَهْ بتقطِيبِ جبينِهِ وعيناهُ المُشتَعِلَة بالغضبِ





يقولُ في نفسِهِ يا لَهذه الفتاة الجبَّارة..!!





شاهدَتْ تالا قِصْرَ قامتِهِ المُفَاجِئ ، وتَقَوْقُعَ يدَيْهِ على معدتِهِ ، لكنَّها لم تُعطِي بالاً لَهُ ، استمرَّتْ في حديثِهَا مُتَجَاهِلَةً ما يحدُثُ معَهُ.





مرَّت على هذه الأوضاعُ سنواتٌ عِدَّة ، أصبحَ الموتُ كابوسِيَ المُخِيفُ الَّذِي أرَاهُ كلَّ يومٍ و صرْتُ أفتقِدُهْ إنْ غابَ عنِّي لساعاتٍ.





أذكرُ في مساءِ إحدى اللَّيالي ، كنتُ أجلسُ على سريرِي خلفَ الأريكةِ الَّتِي جلسْتُ عليها ، أتساءَلُ عن سِرِّ غيابِهِ المُفاجِئ ، ففي مثلِ هذا الوقت يكُونُ بجانبِي لكنَّ شَوْقِي لَهُ لم يستمِرّ إلَّا دقائِقَ لِيأتِيَ على هيئةِ قذيفة خرقَتِ الحائطَ ، ولكنَّها لم تقتلني.





الزَّائرُ يتلَاشَى شيئًا فشيءَ لم يعدْ يُرَى إلَّا بالعينِ المُجرَّدَةِ ، لكن هذه المرَّة لم تنتبِهْ تالا لاختفائِه ؛ فأطيافُ الماضي قد حجبَتْ رؤيتَهُ ، وغصَّةُ القلبِ قد أنسَتْهَا إيَّاهُ ، وأنينُ الرُّوحِ على أشخاصٍ افتقدَتْ أرواحَهُم ، وآخرُونَ خسِرَتْ أجسادَهُم ، فالضَّيفُ اللَّعِينُ لم يترُكْ سِوَى بقَايَا الألمِ مبعثرةً في كلِّ الأرجاءِ لتبقَى كَظِلِّي تُرَافِقُنِي.





و بعدَ أن مضَى على زيارةِ هذا اللَّئيم أربعةُ أعوامٍ قرَّرَ أنْ يأخذَ نقاهةً ولكنَّهُ قبلَ أنْ يرحلَ خلَّدَ ذِكرَاهُ على صورةِ مجاعةٍ





أصابَتِ المنطقةُ برُمَّتِها ، لم يبقَ هنالك ذرَّةَ قمحٍ ولا نُقطةَ زيتٍ





التهمَ النَّاسُ القِططَ الشَّاحِبةَ ، وتناولوا الماءَ حساءً مع قليلٍ مِن البهارِ ، زيَّنَا السّفرةَ بالأواني الفارِغةِ ، عسَى أنْ يُرسِلَ اللهُ مائدةً من السَّماءِ ، هذا كانَ رجائي لَهُ في يومٍ عصيبٍ مقفهِّرٍ بالجُوعِ ، صِرْتُ أسمعُ أصوات معِدَتِي الَّتِي تأكلُ بعضَها لكي يحيَا الرَّمقُ الأخيرُ منِّي ، حتَّى الجوع لم يقتلْ أيَّامي .





ولأنَّ الموتَ لا يمُوتُ ؛ سُمِّيْتُ بابنةَ الموتِ.





والآنَ.. هلْ شُفِيَ غليلُكَ سيِّدِي ؟ هذه قصَّة ابنة الموت.





التفتْتُ يمنةً لم أجِدْهُ ، حدَّقْتُ جيِّدًا ، أدرْتُ رأسيَ إلى اليسارِ ، ناديْتَهُ بأعلَى صوتِي: كُوووورُونَا... كُوووورُونَا أينَ ذهبْتَ ؟ لِمَاذَا لم تأخذْنِي معَكَ كنْتُ بجانبِكَ ، يالِغبَائِكَ..!! قلْتُ لَكَ "رُبَّما"





وما إنْ استيقظْتُ مِن كابوسِي حتَّى رأيْتُ رمادَهُ منتثِرٌ طوالَ الطَّريقِ الَّذِي عبرناهُ سوِيَّةً





أيَا تراهُ كيفَ تلاشَى ولِمَاذَا...!!؟





بقلمِي دنيا أبو الذَّهب






إرسال تعليق

0 تعليقات