اعترافٌ ذكوريٌّ - الجلسة الثانية






اعترافٌ ذكوريٌّ - الجلسة الثانية





-استئناف-





محاكمة الرجال أمرٌ مبالغٌ فيه عند الكثيرين، فلا مجال للنقاش أو الدفاع. محكوم عليكَ بالانحياز والتشدد والتعصب حينها. محكوم بالضعف على كل امرأةٍ عاشقة تحاول سحبَ محبوبها من السجّانات. ومحكوم على كلّ رجلٍ بالنفاق إن حاول النضال ضد جنسه.





هكذا أصبحت الأمور في المحكمة عند انعقاد الجلسة الثانية، جلسة الاستئناف.. حيث تكاثرت أفكار المدّعين وحالت الأحوال لشيءٍ من التوتر، التشتّت والضياع.





حضر هذه الجلسة ضحية من ضحايا ماضي المتهم والملكة التي شيّدت قلعة الحاضر لديه، وغريبة. واستمر السؤال والبكاء وأصابع التهام...





قالت القاضية والرجفة تملئ شفتيها:





لقد استمعنا لأقوال المتهم واعترافه الأوليّ لما نسب إليه من جرائم في حقّ المرأة.





فليتفضل الشاهد الأول.





وقفت فتاة واتّجهت ببطء شديد نحو مكان الشهود، حيث يقسم الصادق والكاذب على قول الحق والحقيقة.





سيدتي القاضية، واسمحي لي بأن أكون فظّة في شهادتي، فقد تذوّقت مرّ العنب قبل نبيذه، ولطالما كان قلبي يسير طوعاً لسمّه الذي تأخر كثيراً حتى أسقمني.





ربما قصّرت في فهم تبريراته، وربما كان الشخص غير المناسب حقّاً.. لكنني وفي لحظات العشق لم أضع ثقتي إلا بين يديه مطمئنة.





لماذا أحبني إن كان سيحكم عليّ بالفراق وفقدان الثقة بالعالم أجمع؟! ولماذا خطّني في أبجدياته مميّزةً طالما كان يخطّ نساء عمره جميعاً فيها؟!





أكنتُ له أقلّ مما يجب عليّ كفتاة يافعة لامسها الحب على حين غرّة؟





قالت القاضية مقاطعةً:





وبمَ أذنب؟





ثم تابعت الضحية في إدلاء شهادتها لما اقترفه الشاب:





كان يرى الأنثى في الأدب شاذّةً، فلا نعتاً لها سوى الصفات الجسدية والبذيئة.. يبرّر هذا دائماً بقوله أنه خُلِقَ ليُخرجَ الجمال من وكره مهما كان نوعه أو ثمنه.





فهل يصعب عليه إخراج ثقتي من قلبي في التخلّي عني فور بلوغه مرحلة الضجر والاكتفاء؟





إنني أثق تماماً أنّنا صغار على الاستمرار في ظلام الحب الدامس، والالتحام معاً على أننا شخص واحد، روح واحدة وضوء واحد.. فلم يكن للتفاهم بيننا مكان، لم يكن للتضحية مفهوم بيننا حتّى.





بل جلّ ما رزقنا هي المشاعر.





ويا لوعتاه كم هي بلا معنى دون اكتمال أركان العشق.





صرخت من الخلف فتاة أخرى:





لا ريب في تجربة فاشلة طالما كانت الأركان ناقصة!





لم علينا الحكم على المشاعر بينما يمكننا إصلاح ما تم تمزيقه وهدمه؟





لقد حدثني هذا الشاب طيلة أشهر عن فشله الذريع في معرفة حقيقة ما يجول في قلبه، واعترف أنه كان يستخدم هذا الأمر كحيلة للإبقاء على علاقاته آمنة من العمق والأبديّة، وبصريح العبارة، لضمان ورقة رابحة للرحيل حينما ينبغي عليه..





وأقول بكل ثقة، ينبغي عليه.





القاضية بكل استغراب:





من المتحدث؟





-أنا مستقبله وأركانه كلّها، أنا العبدة والملكة، الأسيرة والحرّة، أنا التي كان ينتظرها.





-ومن سمح لك بالكلام؟





-خوفي منكِ سيدتي!





-ولم الخوف؟





-ولم لا أخاف من حكم البعض على الماضي الآثم المعتم؟





ألم يرتكب أياً منكم جرائم إنسانية في حقّ من أسلمه قلبه؟





نظرت إليها الشاهدة فقالت:





لقد كنت ضعيفة مثلك تماماً عزيزتي في الأشهر الأولى من وقوعي في فخه اللعين..... تغيّرت ملامحي في الأشهر التالية عند اكتمال الخلافات ومؤتمراته مع نفسه لتبرير موقفه.... وتمزّق قلبي بعدها بسنة عندما خان قلبي، ولم يكتفِ بل كان الهجر ملاذه الوحيد والأخير...





لم يقوى المتهم على الصمت أكثر:





إن لم تكن هذه السنين كافية لمعرفة أننا نغرق بعضنا الآخر في قبرٍ عميق لا مهرب منه، فلن تكفي أضعافها لإقناعك بأن الرحيل كان لضمان ما هو أفضل لكِ، لروحك النقيّة، لقلبك المفعم بالتضحية.. ولعظمة مشاعرك وصبرك.





انقسم الجمع الغفير:





-منافق! منافق!





-صادق وأحسن القول!





ثمّ عمّ الصمت أرجاء القاعة، ومازال المتهم في مكانه يعاقب نفسه على كل أخطاء أصابعه وملامح وجهه..





لم تكن الضحية لتفهم مدى صدقه لولا المحاكمة الصارمة، ولم يكن للمتهم أن يقوم بالاعتراف الغريب لولا محاكمته من أقرب النساء لقلبه..





حتّى أن الفتاة الأخرى لم تكن على معرفة بالشاب، فهي ضحية أخرى لشاب ومجرمة بحق آخر.. لكنها استغرقت في التفكير وقتاً يكفي لاكتشاف حقيقة الأمور للمضيّ قدماً دون الالتفات للماضي المظلم.. وقتاً كافياً يجعلها قادرة على الصفح والاهتمام بما هو أسما.. نفسها ثم نفسها.









عيسى ماهر


إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. لطالما كانت أبجديتك لساناً يتكلم بدلاً منّا...دمت مبدعاً😌💙

    ردحذف