بيتُنا الجميلُ المُوشَّى بنيرانِ الحربِ، الرابع عشر من نيسانَ، ألفان وخمسةَ عشرَ.
إلى ساقي الطَّريَّةِ ناصعةِ البياضِ، إلهي كم أفتقدُك ؟!
أفتقدُك جداً، أتحسَّسُ موضعَك، فينسابُ إلى كفِّي تيارٌ باردٌ، أديرُ عيني يساراً، أعيدُها يميناً علَّك تعودين وتحشين فراغَك في البنطالِ، لكن دونَ جدوى.
أنا أمقتُ هذا الحالَ -خلوَّ بنطالي منك- منظرٌ كريهٌ لعيني، ومنبِّهٌ قويٌّ للغددِ الدَّمعيَّةِ في عيونِ أمِّي وأبي وجاراتنا.
غيابُك يجعلني ثكلى، مفردةُ "ثكلى" أضفتُها حديثاً لقاموسي اللغوي عندما استرقتُ السَّمعَ في مجلسِ أمِّي وجاراتنا وهنَّ يتحدَّثنَ عن "أمّ سعيدٍ" وكيف أنَّ "شبح الحرب بأسلحته الفتَّاكة" سلبَها أطفالَها دفعةً واحدةً، اختلسَ ما جادَ به رحمُها في لحظةٍ واحدةٍ، ثمَّ يختمن حديثهنَّ بالقولِ : "لقد فقدت عصواتِ سعادتِها، ألهمَها اللهُ الصَّبرَ والسُّلوان تلك الثَّكلى" إذاً أنا أيضاً ثكلى لفقدك، فقدت عصا سعادتي، فأنا الآنَ لا أقوى على النُّهوضِ من مرقدي لوحدي، أحتاجُ دائماً أحداً لأتَّكِئَ عليه، صرتُ أشابهُ جدِّي الذي لا يفارقُهُ عكَّازُه.
لا أستطيعُ القفزَ والرَّقصَ على أغاني طيورِ الجنَّةِ، زوالُك صفَّ روحي الوثَّابةَ، بتُّ أكتفي بتلويحِ يديَّ، فتلوحُ معها دمعةٌ في مقلتي لفرطِ عجزي وحرقتي لست أبرِّئُ نفسي ممَّا حدثَ، ولكنَّني ذاتُ الخمسِ سنواتٍ، هشَّةٌ كغزلِ البناتِ، ليِّنةُ العظمِ كالعصفورِ، فشلتُ في صدِّ النِّيرانِ التي نفثَها ذلك التِّنِّين على بيتِنا، فطالَتك كراتُه الملتهبةُ التي بصقها.
أقسمُ أنَّني حاولتُ مراراً استحضارَ القوى الخارقةِ من يدي عسى أخلقُ غشاوةً تحمينا، أو ربَّما أحيلُ ذلك اللَّهيبَ ثلجاً كما يفعلُ أبطالُ الكرتون، لكنَّها خذلتني، قوايَ الخارقةُ لم تسعفْني، ولا أدري لماذا ؟!
ربَّما سقطت منِّي بعضُ كلماتِ التَّعويذةِ سهواً أو ربَّما تلعثمتُ بإحداها لا أخفي عليك، صوتُ ذلك التّنين عقدَ لساني، إنَّه مرعبٌ حقاً.
لكنَّني أريدُك أن تقطعي شِباكَ الشَّكِّ بسيفِ اليقينِ، وأن تعلمي أنَّني لم أتخلَّى عنكِ بمحضِ إرادتي، لكنَّه كان شنيعَ السَّحنةِ، فارغَ الفاهِ، يصولُ ويجولُ بحثاً عمَّا يسدُّ به رمقه وما إن حطَّ بناظريه عليك، حتَّى سالَ لعابُهُ لفرطِ طراوتِك وبياضِك، فنهشَك وانتزعَك منِّي بقوَّةٍ وفظاظةٍ.
لكنَّ المعركةَ لم تنتهِ؛ ولهذا زرْنا الطَّبيبَ أحمدَ الأسبوعَ الفائتَ، ووعدني أنَّه سيكونُ فارسي، سيمتطي براقَ الأنبياءِ مستلّاً سيفَهُ ليقطِّعَ ذلك الوحشَ إرباً، ويخرجَك من جوفه، ويعيدَك إليَّ سالمةً غانمةً.
واليومَ، في السَّاعةِ الثَّانيةِ عشرةَ ظهراً رُدَّ الحقُّ لذويه، هكذا قال لي وهو يضعُك في حجري. جعلتُ أتحسَّسُك، كنتِ باردةً جافَّةً، وهذا طبيعيٌّ جداً، فأنا متيقِّنةٌ أنَّ داخلَ ذلك الوحشِ كهفاً مظلماً مقفراً بارداً، لكن لا عليك، سنجدِّدُ عهدَنا، سأظلُّ أحتضنُك وأحنو عليك، حتَّى أبدِّدَ البرودةَ والقساوةَ التي وصمَك بها.
أنا أعلمُ جيِّداً أنَّ هذا الكائنَ مجرمٌ حقاً، فقد سمعتُ الطَّبيب يقولُ لأمِّي أنَّ هذا "الطَّرفَ الصِّناعيَّ" هو طوقُ نجاتِها الوحيدُ حالياً.
"طرفٌ صناعيٌّ" يا للخباثة ذلك اللِّصِّ !
حتَّى أنَّه غيَّر اسمَك.
على أيَّة حالٍ، أنا منبسطةُ الأساطير، ضاحكةُ السِّنِّ الآنَ، بعدما ملأتِ حيِّزَك مجدَّداً.
أشعرُ بدغدغةٍ في قلبي، كتلك التي تنتابُني عندَ شربِ الحليبِ وتناولِ الشُّوكولا صباحاً، حتَّى أنَّني أسمعُ همسَ فراشاتِ الفرحِ من حولي تدعوني للرَّقصِ معها.
نسيتُ إخبارَك أنَّني أعددتُ قائمةَ مهامٍ علينا إنجازُها، فيها الكثيرُ من الرَّكضِ والجريِ والقفزِ والرَّقصِ أيضاً.
وفي الختامِ، أعاهدُكُ على حمايتِك والدِّفاعِ عنك، والتَّصدِّي لكلِّ الأشرارِ ذوي الوجوهِ الدَّميمةِ والأصواتِ المرعبةِ، لقد أخذتُ سيفَ الطَّبيبِ أحمدَ بغيةَ إبقائِك في سربك آمنةً وادعةً.
أحبُّك جداً.
الجميلةُ بياضُ الثَّلجِ ماريا.
روان ادريس
0 تعليقات