تمرُّ الثَّواني، الدَّقائقُ و السَّاعات و أنا جالسةٌ على رصيفِ الذِّكرياتِ القديمةِ و أتحسَّرُ عليها، فأتذكَّرُ حرِّيَّتي السَّابقةَ و اندفاعي في الحياةِ، و الآن جالسةٌ بين أربعةِ حيطان، أشاهد أيَّامي المسجَّلةَ على الشَّريطِ تنعرضُ أمامي، و الآن ليس بيدي حيلةٌ سوى أن أنتظرَ الأيَّامَ المملَّةَ تلك أن تنتهيَ و أن تنقلَني إلى أخرى أكثرَ بهجةٍ و ليست مرتبطةً بالروتين.
فجلوسي في المنزلِ كورقةٍ باليةٍ قد سقطت من شجرة و يبست، تنتظرُ ذاك الشَّخصَ الذي يمرُّ من فوقها و يصدرُ صوتَ انكساري و تهشُّمي.
فبتلك الفترةِ الطويلةِ من الجلوس في علبةِ كبريتي، تحوَّلت إلى أثاثٍ من أثاثها، عاشرتهم و عرفت خصائصَهم، عرفت ما الإيجابيات و السلبيات واكتسبت تلك الصفات و بدأت في تحوُّلي من فراشةٍ كانت تعيشُ في سماءِ الدُّنيا و بين غيومِها، إلى يرقةٍ، و من ثمَّ إلى أثاثٍ، لا توجدُ صلةٌ بينهم سوى التَّقييد في أحكامٍ قد فرضها الآخرون علينا.
بدأتُ بنسيانِ نفسي و شخصيَّتي، و ماهي ذاتي التي كنت أبنيها لسنواتٍ عديدةٍ و أكتشفُها، بدأت اليوم في التَّبعثر، و من ثمَّ إلى التَّلاشي، نسيت ما كنت أحبُّ أو ما كنت أتطلَّعُ إليه، بقيت شخصاً ذا صفحةٍ بيضاءَ، لا طموحَ و لا صفات، شخصاً مهمَّشاً من كلِّ شيءٍ.
بدأتُ أنسى في أيِّ يومٍ قد وصلنا، فالأيَّامُ كلُّها قد أصبحت واحدةً لا معنى لها، أيَّامٌ تتكرَّرُ و لا شيءَ يتغيَّرُ سوى وجبةِ الغداءِ، ومن ثمَّ لا شيءَ يُذكَرُ.
بدأتُ لا أفرِّقُ بين الواقعِ و الحلمِ، لكنِ الواقعُ أكثرُ مرارةً أمَّا الحلمُ فقد أرى نفسي حيثما أريدُ، بعيدةً عن علبة الكبريتِ التي أعيشُ بها.
بعد أيامي تلك، قرَّرت أن ألملمَ أوراقي التي بعثرتها رياحُ الحياةِ و أضاعتها، نفضت التُّرابَ عن ركبتيّ و أردت الوقوفَ للبدايةِ من الصِّفر، حتَّى لو كانت صعبةً، فالأصعبُ من ذلك البقاءُ في رقمٍ يشكِّلُ نقطةً صغيرةً في صفحةٍ كبيرةٍ هو ال (٠).
رجعت -من حيثما خُلقت- ورقةً بيضاءَ تنتظر أن يُخَطَّ عليها بأشياءَ تستحقُّ أن تُذكَرَ في حياةٍ طويلةٍ أريدُ أن تحفرَ في ذاتي.
جلستُ مع نفسي، كان النِّقاشُ عبارةً عن صمتٍ طويلٍ، لا أعلمُ كم من الوقتِ قد أخذ، لكنَّني أعلمُ أنَّ النُّعاسَ كان الحكمَ في ذلك النِّقاشِ، فقد غلبني و لم أستطعْ أن أكملَ ذاك الصَّمتَ، فحاولتُ مراراً و تكراراً، لم أعُد رقمَ الجلسةِ؛ لأنَّ النَّتيجةَ ذاتَها تتكرَّرُ، ولكنِّي لم أفقدِ الأملَ؛ لأنَّ ذاتي قد خضعت وقتاً طويلاً في علبةِ الكبريتِ تتناسى ذاتَها، و تفقدها و تسلبها أشياءَها، حتَّى استنزفَت طاقتَها كلياً، فتلك الجلساتُ تأخذُ من العمرِ، و لكنَّها تعطينا لذَّةَ العمرِ المتبقِّي لنا.
جلسةٌ بعدَ جلسةٍ، و بدأتُ في تعرُّفي على ذاتي، عادت " أنا" طموحي، أفكاري، ما قد سُلِبَ منِّي في السَّابقِ، عدتُ في تطويرِ نفسي؛ لأنَّني وضعتُ قدمي على أوَّلِ درجةٍ من سُلَّمِ حياتي القادمةِ، الحياةِ التي تنتظرُني لأفتحَ جناحيَّ للحياة و أنطلقَ بها باحثةً عن هدفي من بعدِ لزومِ علبةِ الكبريتِ التي من خلالها فقدتُ لذَّة الحياةِ و أعدتها لذاتي، انتصرتُ على من أوحى إليَّ أنَّ الحياةَ قد فقدت ألوانَها و طعمَها، و لكنِّي عُدتُ في النِّهاية.
زينة حلواني
0 تعليقات