صرخة عمر



لأنَّ العمرَ صرخةٌ أبلغُ من الصَّرَخاتِ اليومَ تسعَ عشرة صرخة و لأنَّ الإنسانَ ليسَ بالأعوامِ و الصَّرَخاتِ و النَّكَبَاتِ…الإنسانُ بتجاربِه ، بعددِ الهزائِمِ الَّتِي شارَفَتْ أنْ تُنهِكَ روحَهُ و رغم ذلكَ أبَى إلَّا أنْ يعتنِقَ دينَ الصَّبرِ …الإنسانُ بمُسمَّاهُ ، باللِّغزِ الكامنِ خلفَ جدارِ روحه ..بإنسانيَّتِهِ و إلَّا لماذا يكون إنساناً من دمٍ و لحمٍ..؟! تجري في هيكَلِي دماءٌ ورِثتُها من أبي على هيئةِ " شعرٍ " أمَّا لحمِي فكانَ من هيئةِ المكانِ الَّذي أُقدِّسُهُ و أَفِرُّ منه إليهِ رغم بعدٍ بينِي و بينَهُ يطوِي سَجِلَّ حياتي مذ نشرَتِ الحربُ فيه كتابها المشؤومُ..! لا يغيبُ عن فكري أنَّ الجميعَ ينظرونَ إلَيَّ كمَنْ وهبَتْ عمرَها هباءً لحربٍ مَا مِن مصيرٍ لهَا يوماً إلَّا الهباء..! و أَنَّي أهملْتُ حديقةً من عمري و أنا أنهلُ شؤماً من حروفِ الحربِ الَّتي لطالَما تمنَّيْتُ أنْ يكونَ لها نهاية ، تبدُو الحربُ في نظرِهم فيَّ ؛ أيّ في نظرتي بِنظرِهم كروايةٍ خالفَتْ تقاليدَ الأدبِ و بقيَتْ دونَ نهايةٍ..! و يا لَبُعدِ تقاليدِ الحربِ من تقاليدِ الأدب..! ترعرعتُ في مدينةٍ خضراءَ ما عرفَت يوماً إلَّا لونَ الدِّماء ، لطالما كنتُ أسألُ نفسِي : " إنَّ اللَّونَ الأحمرَ طاغٍ على الألوانِ لا يقبلُ أيَّ عاصٍ عليه حتَّى اللَّونِ الأسودِ ، فكيفَ للونٍ لطيفٍ كالأخضرِ في مدينةِ الحربِ هذه أنْ يبقَى مُتمرِّداً على طاغيَ الألوانِ و ظالمِها سُرعانَ ما كنتُ أجيبُ نفسي بنفسي " أنَّ جذورَ لونٍ ما لا تقبلُ التَّعديلَ إنْ كانَتْ أصيلةٌ و لو تحتَ ظلمِ سلطانٍ جائر..! و كذا مدينتي خضراءُ من جذورِها حتَّى ثمارِها فكيفَ لساقٍ دمويٍّ نحيلٍ أنْ يقتلِعَ جذراً مُتشبِّثاً بالجذورِ..!؟ مُحالٌ ذلك " ، أنحدِرُ من عائلةٍ تحبُّ العلمَ و خاصَّةً والديّ ، لا أنسى معاملَتَهم الخاصَّة "منذُ نعومةِ خجلي حتَّى اليوم.. " و ما أنا عليه اليومَ من انتصاراتٍ و صمودٍ إلا نِتاجُ تربيتهما و تربيتةُ أكُفِّهما على كتفيَّ و كأنَّني ابنةَ السَّماءِ موهوبةً لهما !، كان والدايَ سببُ توازني في الحياةِ فعلَى الكَفَّةِ المُقابلةِ عهدتُ عزلتي منذُ أعوامي الأُوَل…كانت كلَّما مالَتْ كفَّةُ الوحدةِ في الميزان طغت على روحي مُخَلِّفَةً إيَّايَ صريعةَ الأمراضِ و البكاءِ سُرعانَ ما كانوا يتدبَّرونَ الأمرَ و يُعادلونَ بِكَفَّتِهم ميزانَ نفسي حتَّى تستقيم !..، لم يكنْ والدايَ آباءً من الجنَّة غير أنَّ روحَ الوجودِ فيهم بجانبِ روحي أوحى قلبي إيماناً " أنَّ الفتاةَ بوالدَيْها " …بحياءٍ تنهلُهُ حبّاً من أمِّها منذُ نعومةِ أظفارِها …و بأخلاقٍ و أدبِ تربيةٍ تنهلُه من أبيها بعطشِ شغفٍ ما من ارتواءٍ له إلَّا أنْ تنهلَ المزيد !…و اليومَ صنعَ اهتمامُهما طبيبةً لهُما ، لطالما كنتُ أخشى أنْ تُودِي بيَ الأيَّامُ في نهايةِ المطافِ في مستشفى !..غيرَ أنَّ ما نخشاهُ مُبكِّراً دوماً سيحدثُ في أوانٍ لا يعرفُ قيداً للزمن ، لا أُقَلِّلُ من قيمةِ الأطِّباءِ على العكسِ هم صفوةُ أهلِ العلمِ و جنودُ اللهِ الَّذين يُنقذُونَ بلطفِ اللهِ خلقَ الله و جُلُّ ما يُرضيني عمَّا أخشى إنسانيَّةُ الفكرة و أسطورةُ حبِّ والديّ ، على جانبِ الهواية كانتِ الكتابةُ حديثَ هوايتي القُدسيّ الَّذي لا يحتملُ الإقلاعَ عنها قطّ !…فأنا لسْتُ ممَّنْ يتنفَّسُونَ الكُتبَ أنا ممَّنْ يجعلونَ الكتابةَ بأقلامِهم قابلةً للتنفُّسِ و الاحتضان !…و كعادتي حينما وهبتُ عمري فناءً في جحيمِ الحربِ وهبتُ قلمي قضيَّتَها خلوداً في ذكرياتِ الثَّورة ولو بعدَ أعوامٍ !…علَّمتْنِي الحربُ أنْ أكرهَ النُّزوحَ أكثرَ من القذائفِ حتَّى و إنْ كانَ نزوحاً آمِناً و في نظري لا نزوحَ آمن..! النُّزوحُ حربٌ أُخرى قذائِفُها ضيق الأرضِ برحابتِها و مدافعُها الَّتي لا تهدأ تكمنُ في ألقابِها " لاجئ…نازح…غريب" الَّتي تغرِفُ من قلوبِنا كؤوسَ دماءٍ إلى أجلٍ مُسَمَّى…فإمَّا أنْ نموتَ حينها بجفافِ دماءِ قلوبِنا نتيجةً لسرقةِ حربِ النزوحِ لها..! و إمَّا أنْ يَمُنَّ اللهُ علينا بنزوحٍ على النُّزوحِ يكونُ عودةً للدماءِ و عودةً للروح و عودةً للديار !…أعانِقُ في نفسي اختلافَها الغموضيّ فأنا مزيجٌ من مشاعرَ مبعثرة و أضغاثٌ من أرواحِ البشرِ لا سيَّما " الكُتَّاب لي مزاجٌ حادٌّ يعتنقُ روحاً من أشباهي بين اللحظة و الأخرى فأنا في إنهاكي غسان كنفاني " متعبةٌ من الوقوفِ بدونِ أقدام ، أمّا في حُبِّي فأنا " أدهم شرقاوي على موعدٍ كلّ حينٍ مع صلاةِ غزلٍ يؤدِّيها قلبي احتراماً لشعائرِ الحب! ، في إنسانيّتي أعانِقُ " جيفارا أشعرُ باحمرارِ وجنتيَّ بكلِّ صفعةِ خذلانٍ آلمَتْ أشقياءَ الحظِّ مُنهكي القلوبِ.. ، وفي اشتياقي أُشبِهُ " مصطفى صادق الرَّافعي " يطغَى الاشتياقُ على روحي فما من حيلةٍ لي وقتَها إلَّا الخيال فأُبحِرُ ما استطعتُ في نعيمِ الخيالِ أختطِفُ منه جناحَي ملاكي و أطيرُ بهما..! أتعدَّى حدودَ الكونِ حتَّى أجتازَ سماءَ الواقعِ فيطمئنَّ قلبي بعبورِ مجرَّةِ الشَّوقِ باطمئنانٍ و حبٍّ !..
لطالما كنتُ بطلةَ الفيلم و مُجرمةَ الرِّوايةِ و مُخرجةَ الحدَثِ و ضحيَّةَ الحربِ و صاحبةَ الفكرةِ ، لا زلتُ إلى اليومِ انتصاراتِ أبي و طبيبةَ أمّي و فريدةَ أخي و نظيرةَ روحِ صديقتي و " السَبَّاقةَ " في نظرِ معلِّمي أذكرُ حدَّ اللَّحظةِ كيفَ كان ينعتني بهذا اللَّقبِ بكلِّ برودٍ بينما مشاعرُه تغلي عليَّ و أرواحُ زملائي غارقةٌ في الضَّحِكِ غارقةٌ في الحبِّ حدَّ النَّجاة..



آلاء العمر

إرسال تعليق

0 تعليقات