أيلول | لبنى الروسان



أيلول أسألكَ التمهل في سنيني والتروي
دعني أقص لمن يمر عن الحياة دعني أروي
فيك قد ضاعت سنيني في سِراع العمر تُطوي
قف وهدئ من خطاكَ دع جنون حلمي يدَّوي


في ليلةِ النصف من أيلول ولدتْ أحلامي الصغيرة، عاماً تلو عام كان كل ما فيَّ يكبر إلا أحلامي، ظلّت وليدة، ما نضجت بنضوجي وما شَبّت بشبابي..
أتوه بين ضوضاء في عقلي. تارة أحب الكتب، وتارة أكرهها. تارةً أحب الحساب، وتارة لا أطيقه. لا أجد لي مرساً ترسو به أفكاري، أو مسكناً تسكن إليه توجهاتي.
كنت في مرحلة الإعدادية فتاةٍ ذات عقلٍ متذبذب بين التعلم والمرح، وفي الثانوية كنت أبغض التعليم، فما من شيء يدعو للتعلم إلا أمل أسرتي بأن أدخل الجامعة.


"الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل،
و على القلوع تظل تطوى، أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عارٍ،
و على الرمال على الخليج
جلس الغريب…….."
أثارت هذه الكلمات في داخلي فوضى عارمة؛ فذلك الغريب كان يحكي سحراً في حروفٍ مذهلة جعلتني أفكر فيها مراراً وتكراراً… كيف تمكن العقل البشري المحض من صياغة هذا النوع من التعابير المميزة؟ وزادت دهشتي حين قال:


"و أزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير يشف عما لا يبين وما يبين
عما نسيت، وكدت لا أنسى وشكّ في يقين
ويضيء لي، وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب،
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب…"


اشتعل عقلي وكأن ناراً به قد شبت….. كيف له أن يصف هذه الكلمات؟ كلمات لا يكاد العقل يدركها. وتلك معلمتي، وقفت عاجزة عن الشرح؛ فراحت تردد الكلمات بصيغةٍ عامية دون شرحٍ وافٍ. حدثني عقلي بأنه كان يصف الحروف دون أي معنى…
مرت الأيام وقد غاب أكثر ما في القصيدة من كلمات عن عقلي إلا هذا الوصف لما يبين وما لا يبين. بدأتُ أهوى كتابة القصص كطفلٍ يحب نسج الخيال على ورق. فأكتب كل ما يخطر على بالي وأنظر له بفخر. إلى أن قررتُ أنني كاتبةٌ لا مثيل لها، وأنَّ حروفي عليها أن ترى ضوء النهار..
(أشرف حشيش) شاعرٌ من فلسطين الحبيبة. كنت أقرأ حروفه دون إدراكٍ تام لما يقول. قرأ قصتي الأولى التي كانت بعنوان: إنسان أم ماذا؟؟
فقال:" يبدو أن الكاتب لم يقرأ قصة من قبل. لا يعرف كيف تنسج القصص، ولا يجيد التعبير بشكلٍ سلس، لديه الكثير الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية ولا يراعي علامات الترقيم. لا تكتب إن لم تتعلم الكتابة… كيف يمكنك أن تطلق عنواناً على شكلِ سؤال؟"
شعرتُ بالصدمة… توقف الزمن بي برهةً وفاضت في عيني دمعةٌ أمسكتها على مضد. أغلقت هاتفي ومزقت الورقة التي كتبت عليها القصة. واتجهت للهو كما اعتدت قبل الشروع بالكتابة.

مطر

مطر …

ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء

تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر ،

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .

مطر 

مطر 

مطر …


السياب مجددا. كنت أقرأ في كتاب أخي حين كان في الثانوية فتصادمت والسياب وأنشودة المطر. يا لك من شاعرٍ أيها السياب.
غفوت في ليلتي وغفت العراق بجانبي والجوع، والمطر.
قررت بعدها أن أعود، لكن في الظلام فلا عينَ ترى ما أخط، ولا أذنٌ تسمع.
كتبت قصصاً كثيرة وعدت لأمحها.. مرة تلو الأخرى، أمحو ما كتبت وفي بعض الأحيان أمزق الورق.
الى أن كتبتُ مجموعةً من القصص بعنوان "بسطاء وقلوب بيضاء" كتبتها للأطفال دون ال (١٢ عاماً) وخبأتها في مكتبي الصغير حين طلب مني أستاذٌ أن أعرض عليه ما أكتب بعد أن أختبر حبي للكتابة فقال: هنا نجد ولادة قاصة للأطفال لها مستقبلٌ واعد.
عدتُ وعرضتُ قصةً على ذاك الشاعر "أشرف حشيش" لكنه قال: أظن أن قلمك قد نضج.. أحسنت .
أيلول توقف من فضلك، لا تتعجل في المضي قدماً فالعمر يجري دون أي فائدة. تمهل دعني أقوم بتحقيق أحلامي.. أيلول هل تسمعني؟


"يا أيلول أنتِ أمي" قالها فقال قولة كذب.. قالها فكسر القلم. قالها فانشق القلب عن الجسد، كيف للقلب أن يرتاح بعد تهشيم الروح؟ كيف لها أنْ تحتمل سماع صوت الكذب يعلو!!
يا أيلول رجاءً توقف فما عاد قلبي يحتمل.

يشف عما لا يبين وما يبين،
عما نسيت وكدت لا أنسى وشكّ في يقين.

اااه على كلماتك أيها السياب.. تشرح ما في داخلي بانسياب.. أيلول شهر وليس قصيدة، ليس الأم وليس الحبيبة، ولدت ليلة ولادة بدر أيلول، ولدت لأكونَ الجنون، فلا عقلانية في الأحلام.
أيلول خذ بيد أحلامي واجعلها تنفجر. ألف؟ ألفان؟ مليون؟ لا لا هذا لا شيء،
أنا اليوم سأخبر أيلول في وجهه أنه مجرد شهر، وأنني أنا مَن يزينه وليس هو من يزينني!.
مليار!
هو كذلك. حلمي أن أصل الى مليار إنسان في العالم لأخبرهم أنَّ الحب نقاء، وأنَّ الحلم جنون، والمجانين فقط وفقط مَن يغيرون العالم، وما أنا من العاقلين.


لبنى الروسان


إرسال تعليق

0 تعليقات