جلسْتُ الآنَ أسترجِعُ سيرةَ حياتِي منذُ الصَّرخَةِ الأولَى لِي ، المُمتزِجَة بضحكتِهَا ، المُترافِقَة بصوتِ أذانه المليء بمشاعرِ الحنانِ و الارتباك .
عشرُونَ عامًا و أحدَ عشرَ شهرًا وعشرة أيَّامٍ .
يا إلهي..!!
كَم مضَى من الوقتِ مِن تِلكَ اللَّحظةِ.!؟
نعم ، إنَّه عمرِي الآنَ .
في شهرِ نيسانَ في السَّاعةِ الواحدةِ والنِّصفِ من اليومِ الواحدِ و العشرين تحديدًا ، قد ولدْتُ .
كنتُ فرحةَ عمرهُمَا الثَّانية ، بعدَ مولودتَهُمَا الأُولى بسنةٍ وخمسة عشر يومًا .
كُنَّا حصيل الحُبٍّ سبقَ زواجهُمَا بتسعِ سَنَواتٍ تقريبًا .
والآنَ جلسْتُ …
جلسْتُ مُحتارةً مِن أينَ أبدأُ ؟! وعن مَاذَا سأكتبُ ؟!
أعلمُ أنَّني في لحظةٍ مَا قد أقِفُ عاجزةً عن التَّعبير ، أقِفُ حبيسَةَ المُفرداتِ ، رَغمَ أنَّني أثِقُ تمامًا بقوَّة مُفرداتِي ، و بفصاحةِ تعبيرِي ، و نَسجِي للكلماتِ .
أثِقُ بِخُطَى قلَمِي علَى أرصِفةِ سُطورِ الصَّفَحَاتِ ، لكنَّ المواقِفَ يومًا مَنْ تفرضُ نفسَها وتتحكَّم بالانفعالات .
و لضيقِ الوقتِ ، والتزامِي الآنَ بتقديمِ امتحانِ الفصلِ الأوَّلِ من العامِ الدِّراسيِّ في الجامعةِ فكَمَا تعلمُونَ أنَّني طالبةٌ في كلِّيَّة الصَّيدلة في السَّنةِ الثَّالثة وجدْتُ مهربًا لاستنادِي عليه..
قصَّتِي الَّتِي كتبتها عنها ، منذُ ثلاثةِ أعوامٍ تقريبًا ، بلْ وأكثر .
كنتُ في الصَّفِّ الثَّالِثِ الثَّانويِّ ، حينَ نسجْتُ عباراتٍ قد حدثَتْ معِي في سنِّ الخامس عشر من العمر .
على قيدِ الحياة .
في الثَّالثةِ والنِّصفِ من مساءِ يومِ الاثنينِ ، فجأةً وبلمحِ البصرِ..
صوتُ صاروخٍ قد انفجرَ ، شظَايَا ، دخانٌ و رماد ، انتشرَ في أنحاءِ البلادِ ، شعرْتُ بشيءٍ غريبٍ في الذَّاتِ ، بينَما كانَتِ الفتياتُ تصرخْنَ الصَّرخَاتِ ، عندما كُنَّا في درسٍ من دروسِ الرِّياضيَّاتِ ، بعدَ انفجارِ الصَّاروخِ بلحظاتٍ .
يا إلهي..!! كيفَ هذا ؟ ألَمْ يكفِهِم كلَّ ذاك ؟
الجميع كانَ خائِفًا ، الأطفالُ والصِّغارُ ، الأهالي والكبار ، أمَّا نحنُ فقد خرجْنا لنعودَ إلى المنزلِ ، والخوف يملأُ قلوبَنا كَلهيبٍ مُشتَعِلٍ .
وعندما اقتربْتُ مِن حارتِي ، كانَتْ حالةُ جميعُ الجيرانِ كَحالتِي ، فقد كانوا مُتألِّمِينَ مُتوجِّعِينَ ، وكانُوا يتهامَسُونَ بالخبرِ الملعُونِ …
ماذا..؟! ما هذا الخبر ما هذا ؟
لم أستطِعْ السَّيطرةَ على نفسِي لقد تجمَّدَتِ الدَّمعةَ في عينِي ، وتوقَّفَ الدَّمُّ في وتيني .
فعندما تلقَّيتُ ذاكَ الخبر ، شعرْتُ أنَّ قلبي قد انكسرَ ، ومُعلِّمُ اللُّغةِ الأجنبيَّةِ قد أوقَفَنِي ليسألنِي عنها ؛ ليتأكَّد من صحّة ما قد سَمِعَ .
لا.. ، لا
أمِّي.. يا أمِّي ؟!
إن أمرٌ يستحيلُ تصديقه .
وتركتهُ راكِضةً والدُّموعُ تنهمِرُ على وجهي وأنا أتذكَّرُ صدى الكلماتِ الَّتِي كانَ يقولُهَا النَّاسُ من حَولِي..
"نَعم ، إنَّها زوجُ مصطفى المُمرِّض ، نَعم لقد استشهدَتْ "
ثُمَّ شاهدْتُ أخِي يبكِي أمام المنزلِ ، لكنِّي لم أهتمُّ لحالتِهِ .
شيءٌ ما كان قد خدَّرني ، قد شلَّ رأسي عن التَّفكيرِ .
أسرعْتَ إلى الدَّاخل وبدأْتُ بالنِّداء :
أُمِّي يا أُمِّي..!!
رُدِّي عليَّ ، قُولِي أنَّ الخبرَ كاذبٌ ، قُولِي أنَّكِ ما زلتِ على قيدِ الحياةِ _ وقد كانَ نفَسِي سينقَطِعُ من الحزنِ والصِّراخِ _ ثُمَّ قلْتُ : الجميعُ يقولُونَ أنَّكِ قد رحلْتِ معَ شهداءِ السَّماءِ ، أرجُوكِ خاطِبينِي ، أرجُوكِ كلَّ الرَّجاءِ .
لم أكُنْ أستطيعُ الرُّؤيةَ ، فالدُّموعُ كانَتْ تملأُ عينيَّ ، وصوتي شعرته أسيرًا رغم كلّ صراخي ، وللحظةٍ والدُّموعُ تنهمِرُ ، شاهدْتُها واقفةً تضمُّ أخوتِي بجانِبِها ، والهاتفُ لا يخمدُ أبدًا بالسُّؤالِ عنها …
فالجميع كانَ يظنُّ أنَّ أُمِّي الَّتِي استشهدَتْ هذا اليوم .
حمدْتُ ربِّي وبدأْتُ بالشِّكرِ، وذهبْتُ لأستفسِرَ عن الأمرِ .
ضمَّتْنِي في أحضانِها مُردِّدَةً : " لا تخافِي ، أنا بينَكُم يا أطفالِي "
و أكملَتْ : " إنَّها زوجُ ابن عمِّ والدك الغالي ، اللَّذانِ يُخطِئ النَّاسُ بينَهُما دائمًا وعلى التَّوالي "
يا إلهي..!! خالتي زوج ابن عمَّ والدي ؟!
نَعم ، لقد كانَتْ تلك المرأةِ الطَّيِّبةِ الحنونةِ ، ذات الأخلاقِ الحميدةِ الَّتِي كانَتْ مؤمنةٌ تقومُ بجميع فروضِها ، وملازمةً لحفظِ القرآنِ ، الَّتي كانتْ تملكُ ولدَينِ و طفلةً جميلةً ، تلك الطِّفلة الَّتي كانَتْ لا تخرجُ من منزلِها إلَّا مُرافِقَةً لهَا، لكنَّ اللهَ قد شاءَ أنْ تخرجَ ولأوَّلِ مرَّةٍ بدونِها ، نَعم لقد خرجَتْ لتشتري لها ملابس جميلة ، تارِكةً وعدَها الَّذي قطعَتْهُ على نفسِها بأنَّها ستأخُذُ صغيرتُها إلى مكانٍ آخرَ عندما تعودُ فأخِي كان في منزِلِها يلعبُ مع أولادها ، و سَمِعَ كلماتِها الأخيرة الَّتي قالَتْهَا لفتاتِها الوحيدة _ و بعد مغادرتِها بدقائق قليلة ، انفجرَ الصَّاروخ بقوَّةٍ ، لتختارَ شظاياهُ جسدَها ، فتصيبُها إصابةً قاتلةً .
أمَّا امرأة أخيها الَّتي كانَتْ مُمسِكَةً بيدِها ، فلَمْ تُصَبْ بأيِّ جرحٍ صغيرٍ ، مع أنَّها كانت واقفة بجانبِها في شارعِ السُّوقِ الكبيرِ . لكنَّ حالةً من الجمودِ ، قد سيطرَتْ عليها بدونِ خمودِ ، فقد شاهدَتْها أمامَ عينيها وهي تُفارِقُ الحياةَ .
يا إلهي ما أعظمَ حكمتك.!
لَنْ أنسَى كلماتِها الأخيرة الَّتي قالَتْها لِي آخرَ مرَّةٍ شاهدْتُها قبل استشهادِهَا ببضعِ أيَّامٍ ، كلماتٌ مليئةٌ بالعِبَرِ والأحكامِ .
" الموتُ يأتينا بدونِ استئذان ، فلنُداوِمُ على استغفارِ الرَّحمنِ ؛ لننالَ الغفرانَ ونكون في الجنانِ ".
كانَ موقِفًا يتركُ في نفسِي الارتعاشَ كلَّما تذكَّرته …
على قيدِ الحياةِ .
لطيفة مصطفى سلات

0 تعليقات