وراءَ الحروفِ تختبئُ الحكايات





وراءَ الحروفِ تختبئُ الحكايات، مع ذلك، لن تكفي الحروفُ لسردِ حكايةٍ كما عاشتْ في قلبِ إنسان، هيَ فقطْ تنتشلُ بضعَ شعورٍ لتحكيهِ، اليوم يقفُ قلمي حائراً يدورُ في مخيّلتي عمَّ يكتب، في ذاكرتي تجد ما لا يحتملْ عقلُكَ أنْ يقرأه، بينَ طفولةٍ قُتلتْ، و حاضرٍ عديمِ الرّحمة، و مستقبلٍ لا يعلمهُ إلّا الله، كنتُ أنا فتاةَ السّتةِ عشرَ عاماً تجرّعتُ من كأسِ الحياةِ ما يكفي لأتمنّى مضيَّ العُمرِ على عجلٍ، و بينما البعضُ يحلم بالعودةِ لطفولته هرباً من واقعه، كنتُ أنا غيرُ مستعدّةٍ لثانية واحدة أعودُ بها لطفولةٍ فيها المرضُ ذنب، و البكاءُ ذنب، و الضّحكُ ذنب، و الحديثُ ذنب، حتّى الصّمتُ ذنب! .
ولدتُ في مدينةِ الحبِّ، مدينةُ الخيرِ و الطّيبة، مدينةٌ يَسري حبُّها فيَّ كالدّمِ في الجّسد، كنتُ قادرةً على إزالةِ نصفِ هُمومي مُجرد استنشاقِ هوائِها العليل، فهوَ لصدري دواءٌ للكرب، أمّا عن ليلها -آهٍ من ليلها- كمْ احتضنَ مآسي قلبي، و سترَ دموعَ المُقل؛ ليأتِ صباحُها بإشراقةِ شمسٍ تعيدُ لي بسمةَ الثّغر. اضطررتُ لتركِ محبوبتي "حلب" عامَ ألفين و ستّةِ عشر، غادرتُ وردتي البنفسجيّة جريحةً، كطفلةٍ خُطفتْ من حُضنِ أمّها الدّافِئ، ابكِ يا قلبُ، ابكِ؛ علّكَ تُداري ندوبًا صنعَها الفقدُ في الرّوحِ. للقراءة سحرٌ خاصّ في تهدئتي، تغوصُ في عالمٍ بعيدٍ عن واقعك، لتصحو بعدها بصفعةِ انتهاء تُعيدكَ للواقعِ المُرّ، أمّا عن الورقِ و الأقلام، فأنا مدينةٌ لهم بالحفاظ عليّ من الجنون، هم المهرب، و المكان الآمن الوحيد الّذي لن يخونك، حرّر يدك و اكتب كلّ ما يجول بخاطرك حتّى و إن كنتَ لا تُجيد الكتابة. إنّها سنتي الرّابعة في الرّيف، لم أكنْ أتصوّر -وأنا فقيدةُ الأهلِ منذُ الصّغر- أنّي سأتمكّن من إيجادِ عائلةٍ لي هُنا ! لكنّي آسفةٌ أيّها الرّيف؛ فشوقي لحلبَ طغى عليَّ، كبرتُ فيكَ سنةً لكلِّ يوم ٍمن تلكَ الأربع سنوات، لم يَخِلْ إليّ أنّي سأجمعُ فيكَ الحبَّ و الخيبة، التعلّقَ و الفقد، الانكسارَ و الضّعف، و الأهمّ من هذا فقدُ قدرتي على البُكاء ! اليومَ أنا أحمدُ الله إنْ استطعتُ سكبَ دمعَِ العين؛ لإفراغِ ما سبّبتهُ لي من تعلّقٍ و ألم، المُشكلة أنّك أيّها الرّيفُ ماكر، ماكرٌ جداً، كسرتني و آذيتني، أريتني العجائبَ، و صدمتني صدماتٍ لن يزول أثرها و لن يطيبَ جُرحها، بذاتِ الوقت، أهديتني عائلة ! أُناساً ألطفُ و أحنُّ عليَّ من نفسي، أأبغضكَ أمْ أُحبّك ؟ لستُ أدري! .
أُرثي قلبي، أو بالأصحِّ ما تبقى من قلبي، أُرثيه؛ لعيشهِ بلا عائلةٍ تضمّه، ثمّ خسارتهِ حلبَ الحبيبة، و فقدهِ الآنَ الرّيف بمَ فيهِ من حبٍّ و ألم، ما زالت بقايا الفؤادِ ترجو و تأمُل الله بترميمِ فُتاته و ضمّ ندوبِ الرّوحِ بلقاءِ أُناسٍ كانوا الأهلَ و الحبَّ والصُّحبة. لصبري خمسُ مسبّباتٍ في الدّنيا.. أوّلها، فردٌ وحيدٌ من العائلة، هو أخٌ بعيدٌ كوى القلبَ فراقُه، و جفّتْ دمعاتُ العيونِ استنجاداً به و هوَ للأسفِ لا يسمعُ صرخاتِ صغيرته، ثانيها، فتاةٌ جمعتني بها صدفة لتصبح لي أختاً لم أحظَ بها، أختٌ تخاف عليّ من خدشٍ يصيب إصبعي، تدعو لي، و تهتم بي، هيَ القوّة عندما ينهار كلّ شيء، ثالثها و أغلاها إنسانةٌ أسميتُها العافية هيَ لي الحضن، و الحنان، و الملجأ، و المتّكئ، و كلّ جميلٍ في الحياة، علاجي ضحكتُها، و فرحتي بسماعِ صوتِها، و قوّتي و مأمني تفاصُيلها، و رابعها، صديقةٌ وجودها عونٌ، و حديثُها راحة، هيَ أنا، أنا هيَ، لا مجالَ لواوٍ بيننا، أمّا الأخير فهو غريبٌ قليلاً، هوَ جرحُ حبٍّ ! لستُ أملكُ لشفائِه سبيلاً، بئرٌ مظلمٌ عميق لا حبلَ للصعودِ منه، مصيبةٌ جميلةٌ ربّما، لا أدري نهايته، علّهُ بدعواتٍ لحوحةٍ لا يخبو. نهايةً.. تمنيتُ لو يُدفن الماضي بمَ فيه لكنْ بئسَ الذّاكرة المريرة، يبدو أنّ القدرَ لم يشفَ غليلهُ بعد، و أنّ الحياةَ لم تلعب لعبتها كما أرادتْ، إنّي أسقطُ إعلاناً باستسلامي للضرباتِ المتتالية، بدأتُ أعي أنّ طفولتي ما هيَ إلّا نقطةٌ ببحرِ ممَّ أتى وسيأتي. آه كدتُ أنسى عزيزي القارِئ فلم أُطلعكَ على اسمي، "سارة" لا أدري سبب تسميتي باسمٍ يدعو للسُرور بينما قرّروا إحالةَ حياتي جحيماً، يبدو أنّ اسميَ قد أخذَ نصيبي من السّعادة، دعكم من الإحباط؛ فمازلتُ واثقة أنّ للعُمرِ متّسعٌ لفرحةٍ أنتظرها تُنسي ما عاشَه عُمري الفقيرُ من كَربٍ.


سارة زهني


إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. ربي يفرج همك ويسعد قلبك سعادة تملأ روحك وتنسيكي كل اوجاعك الماضية وربي يحقق يلي ببالك ويشفي قلبك ويفرج كربك ويوفقك بحياتك وتفاءلي سبحانه قال أن مع العسري يسرا ما بعد الضيق ألا الفرج كلما اشتد الحبل سهل فكه🌼💜💜

    ردحذف