آهات فرحة | هديل الميدنه

 



هدیل المیدنه آهاتٌ فرحةٌ





كَالعَادة تَسِیر بِكُلِ عُنفوان بَراءتِها، وَوجهُها الضَاحِك المُستَبشِر، لَا یَرتَفعُ صَوتهَا الحَانِي سِوى بِبضعِ سَلامَاتٍ تلقِیها لِعَابِري الطَرِیق وَكأنَّها تلقِي بِحِبَال النَجاة لَهُم فَیَتلقفونها منشرحي الوجوه متیمنین بیومٍ ملؤه البشرى، تتهادى بمشیتها أمام عجوزٍ طیبةِ الملامحِ یتبسمُ قلبُك لرؤیاها لتستمتعَ بدعواها، یطیبُ خاطُرها حین تشنفُ سمعِها بحكایاتها وأمثَالها وهي تعبثُ بخصلاتٍ ذهبیةٍ تتراقصُ على لجینِ جبینِ تلك الطفلةُ المشاكسةُ الجالسةُ بجانبِها، ثم تنفضُ بعضها وتلملمُ شتات روحِها وتمضي وكلماتُ تلك العجوزُ ما زال صداها یدورُ في رأسِها، مختتمةٌ حدیثُها بدعواها التي تسكّن فؤادها الطاهر .
طرقةٌ على بابِ مكتبِها كانتْ كفیلةٌ لترفعَ رأسُها المتهدّل بین كتفیها لترى مَن الآتي، وبطرفي سبابتها وإبهامها أزاحتْ عویناتها عن عیونها الرمادیةِ الجمیلةِ، وهي ما زالتْ تحركُ قلمُها یمیناً ویساراً علامةُ انتباهها لِمَا حولها، فتبتهجُ حواسُها كلّها مُرحبةً بمَن أدخلَ الجمالُ والخیرُ على یومِها بمجیئهِ في الصباحِ هنا فاسبشرتْ خیراً بیومِها الذي ظنتهُ تَعِساً؛ مرددةٌ بكل حُبّ: یا فرحةَ حیاتي وفرحةَ قلبي وما حوى اشتقتك جمّة
تهللتُ فرحة بشراً بمعالمِ محیاها وقالتْ دفعةٌ واحدةٌ:- النتیجةُ إیجابیةٌ صحیحٌ
ابتعلتْ جفافُ ریقَها، وبللتْ شفاهها الیابسةُ، وألقتْ النظرَ على كل شيءٍ حولها واللاشيء دونَ أن تقعَ فرحةٌ في مجالِ بصرِها وارتدتْ للخلفِ تُهمهمُ بكلماتٍ لم تستطعْ فرحةُ اكتنازَ أيٍّ منها ویدِها تعبثُ بالأوراقِ التي تركتَها قبلَ قلیلٍ حینَ وصلَتْ أقدامُها لمكتَبِها، عندَ ولوجِها نسیتْ كل ما حضَرتُه من كلماتٍ لیلةِ أمسٍ، وما أظهرَ القلبُ إلا شوقٌ لمرآى صغیرتُها الجمیلةُ،
اقتربَتْ وبیدُها المرتعشةُ من فرطِ توتُرِها وقلقِها المتأرجح بین الفرح أو الانتكاس؛ - فهي دائمًا تعطي لأيُّ شعورٍ في حیاتِها مساحةٍ متسعةٍ وكبیرةٍ في نفسِها، تتخِذُ أيَّ إحساسٍ تشعرُ بهِ على نهجِ الإفراطِ، فإن حزنَتْ تحزنُ بإفراطٍ وإنْ فَرِحَتْ تفرحُ بإفراطٍ وإن یأستْ تیأسُ بإفراطٍ حتى أملُّها بإفراطٍ على رغمٍ من ذلك إلا أنَّها وقتُ أرادتْ الحكمَ علیه بالاندثارِ والاختفاءِ یتلاشَى بنفسِ اللحظةِ التي أمرتُه بِها وتعلنُ وتعممُ الشعورَ الجديدَ المریحَ الذي أحیاها ثانیةً على جلّ مواضعِ جسدِها بإیماءاتِه وضجَتِه وسكنَاتِه، غیرَ أنَّها تتركُ ندوباً تُسطرُ بدنَها وسواداً یكتسحُ أسفلُ عینَيها وسقوطاً لا بدَ منهُ من سلاسلِ شعرِها الذهبیةِ، وضعفاً يستولي على أجزاءِها الجانبیةِ ،ومع ذلك یزیدُهَا صلابةً وجمالاً- هزتَها هزةٌ خفیفةٌ بنفسِ الیدِ المرتعشةِ وأعادتْ السؤالُ مرةً أخرى ولكن بشعورٍ مختلفٍ عن المرةِ الأولى وبكلِّ تَمهُلٍ قالتْ: أكانتْ النتیجةُ إیجابیةٌ صحیحٌ؟!





لم تشعرْ بنفسِها سوى بین ذراعین رقیقتین تعتصِرها بكلِ ألمٍ وعینیها المغمتضتین عن واقعٍ وحقائقٍ علمیةٍ أبتْ أن تلوكَها بلسانِها وأخذتْ تنهجُ بُكاءً على حالِ صغیرتِها التَعِس، وتردد قائلة:- لعل ﷲ یحدث بعد ذلك أمراً، وابتعدت قليلاً وما زالتَ یدیَها تتمسكُ بذراعي صغیرتِها خشیةَ سقوطاً غیرَ محتملٍ ولكنْ هیهاتُ قوةٌ تحكمُ صغیرتِها بنفسِها یعجِزُ ذلك، رأتُها جامدةٌ لمْ یهتزُ جفنُها ورموشُها العلیا الكثة لم تلتقِ بأختها السفلى لمرةٍ واحدةٍ حتى تطمئنُ نفسُها قبلَ مریضتُها قائلةٌ: هناكَ فرصةً أخرى سأرسلُ تحالیلُكِ لصدیقةٍ لي في الخارجِ تُطلِعَها على طبيبٍ متخصص ب….





لم تكملْ كلماتُها ونظراتُها حیرى تجولُ هنا وهناكَ، صمتُها باتَ حاجزٌ والكلماتُ محتبسةٌ في عنقها كحبلٍ یشدُ أوداجِها أو كرصاصٍ قد یقذفُ من لسانِها یسددُ في قلبِ تلكَ الصغیرةُ وكأنّ قلبُها الضعیفُ سیتحملُ؛ ألیسَ یكفي فقدانُها لأبیها.
لا تتحايلي على الحقائقِ وتُلقِیها على مسمعي بطریقةٍ لطیفةٍ، أَلقي ما بِجُعبتكِ دونَ اكتراث لن یحدثْ لي شيءٌ أسوءَ مما أنا علیه الآنْ فلا تقلقي، لِطفُ ﷲ الخفيّ أعظمُ من أيُّ حزنٍ قد یهیمُ به قلبي وتأكدي أنَّهُ شعورٌ زائلٌ فورَ استیعابَ الرد الذي ستجیبیني به؛ كشفتْ الستارَ الوردي عن أسنانٍ لؤلؤیةٍ بعدمَا شجعتْ طبیبتها على إكمالِ حدیثُها بردِها ذاك .





تبسمتْ بألمٍ كونَها لم تعتبرُها كأيُّ مریضةً فهي تلكَ الطفلةُ التي كانتْ تداعِبها كلَّما ذهبَتْ لجامعَتها فقط لترى غضبُها الجمیلُ المضحكُ حینَ یسیطرُ على حركاتِ جسدها الضئیلِ، أصبحتْ بعمرِ العشرین وهي طبیبتُها أجابتَها بحنانٍ أموي تدفقَ منها على حینِ غرةٍ: لا أتحایلُ ولكنّي لستُ على یقینٍ من صحةِ التحلیلِ بالفعل، وقد تكونَ إیجابیة فأنتِ تعلمینَ أنَّ مشفانا أجهزتُه غیرِ كافیةٍ ولا تعطي النتائجَ بدقةٍ فإمكانیاتُنا قلیلةٌ.





مرَ أكثرُ من أسبوعين وشحوبَها یزدادُ وبهتانُ ملامِحها یثیرُ فيّ دعوةٍ إلى اﷲ أستنجدهُ بأنْ آخذَ كلَّ آلامِها بلا تردد ولا أرى صفحةُ وجهَها الجمیلَ هكذا، كان میعادُ النتیجةَ الحقةَ الیومَ، قلبي ینهجُ بالدعاءِ، ونَفَسي یضیقُ كمدًا مما هو آتٍ، وعیناي تتراقصُ- كفراشةٍ تتهادى من زهرةٍ لآخرى لتلتهمَ رحیقها الآخاذُ- من الهاتفِ إلى الفاكسِ وكأنّي أركضُ آلافَ الأمیالِ وأنا جالسةٌ على مقعدي في غرفةٍ عرضُها وطولِها خمسةِ أمتارٍ، صوتهِ اخترقني وهزني هزةً عنیفةً كدتُ أسقطُ أرضًا من المقعدِ وتعثرتُ بأمالي وأنا أنظرُ لحركةِ الجهازِ الوتیرةِ اللعینةِ لخروجِ الورقةِ منهُ، لشدةٍ
تلفُ أعصابي لم أسیطرْ على حركةِ یدي وهوت الورقةُ على الأرضیةِ وهوتْ معَها قدمايّ أخذتُ أتفحصُ مصیرُها الذي بینَ یداي هاتانِ، سلطتُ بصري أسفلَ الورقةِ لأجدُ ما أتوقعهُ ولا أرجوهُ…
علیكِ أخذُ جرعاتٍ كبیرةً من الكیماوي في الأسبوعِ المقبلِ فَتصریحُكِ تم الموافقةِ علیه تجهزي للسفرِ فرحةٌ، قلتُها بآلیةٍ ومهنیةٍ بحتةٍ وملامحي متجلدة مهما حاولتْ تسبرُ أغواري فلنْ تفلحُ وكنتُ ممسكةٌ بكاملِ أوراقِها التي ستحتاجُها للسفرِ وأمدُها إلیها، كمَا المعتادُ كانَ جوابُها ابتسامَتِها المتفهمةَ للأمرِ وأنَّها جاهزةٌ تبني بداخلي قناعاتٍ للحیاةِ ونظریاتٍ لم أدركها ولم أتعلمْ أيٍ منها إلا على یدي تلكَ الصغیرة فرحةٌ، أخذتْ الأوراقَ وذهبَتْ .





ربَّما لنْ أرَها بعدَ الیومِ ربَّما بعدَ شهرٍ أو حتى بعدَ سنةٍ أو أنْ أكونَ السباقةُ وأموتُ قبلَها وتبقى هي حیةٌ ترزقَ، لا أحدَ یعلمُ ما للقدرِ من حكمٍ وما هو المُقدّر لنا، ولكنَّ لِطفُ ﷲ الخفيُّ بِنا أعظمُ نعمةٍ قد نسهو عنها، قد یكونَ رحمةً منهُ تلكَ التي نسمیها مصائبَ، لا أحدٌ یعلمُ أینَ الخیرَ والقلیلَ مَن یصتبرُ ویدركُ المعنَى، وقد یدركهُ ولا ینفذهُ لقوةِ یأسِه، وقد ینقلبُ ضِدهُ ویجحدُ، خاتمَتُنا أجلُّ شيءٍ یجبُ علینا الاكتراثُ بهِ


إرسال تعليق

0 تعليقات