لم تكن تُدرك أنّ مخيّلتها قد تطغى عليها بشكلٍ جنونيّ، وأنّها قد تصدّق أوهامها الّتي رسمتها، أنّها قد تصدّق بأنّه سيصبح روحًا مجنّحةً من روحها!
جزءٌ من بعثرة الماضي المؤلمة ارتكزت في شغاف قلبها متّخذةً إيّاه فتيلًا لإشعال روحها.
كانت تنتابها موجاتُ الخوف؛ ورعشاتُ الفقد، ووخزاتُ البُعد، الّتي أخذت تُغرَس في عروقها بعمقٍ يومًا إثر يوم، بلا رحمة، تشقّها.
كانت وحدها، تسير في هاوية نفسها، كروحٍ تائهة بلا وعيها، تذرف دمعًا حارقًا بصمتٍ مُعميًا عينيها، وهي لا تزال تهذي: "أخي! .." فتتنهّد بشوقٍ لتغرق في أوهام مخيّلتها.
تراءى إلى ذهنها طيفُ ذكرى من ماضيها، يومَ كانت طفلةً بريئةً تُلحّ على أمها برجاء: "أين أخي؟" لم تكن حياتها ليّنةً بتاتًا من وجهة نظرها دون تواجد أخٍ لها.
لم تعي أيّ شيءٍ يرتبط بالسّعادة أو البهجة الّلطيفة، لطالما رأت بأنّ الحياة قاسية لا نور فيها، شمسُ قلبها منطفئة، والقمر دائمًا يخفى عن لياليها، تعانقها حلكة السّماء مضلّلةً رؤياها، فتحاول الهرب، وهي تصرخ بشوقٍ جارحٍ مناديةً وهمَ أخيها، وهل من أملٍ لرُؤياه؟ فالأسى لا يكتفي من احتضانه لروحها المُنهكة، لا تكتفي أشواك الخريف من احتضان رئتيها مخلّفة ثغرات دمويّة.
وبحقّ! لم تتقوّس ابتسامتها للأسفل يومًا؛ الظّلال تلاحقها، والمخاوف تقيّدها، أصداءٌ مرعبة من الّلامكان تتناهى لمسامعها، تُحيطها كوابيسٌ وهواجسٌ لا مفرّ منها، تغدو الحياة ككُرَةٍ سوداء لا نهاية لها؟ فتستمرّ بالهرب من حياتها، من الّليل الحالك الّذي يغلّف عينيها الدّامعتين، لكن إلى أين؟ أنّى تجد ملجأً تستكين فيه روحها وتهدأ، مكانًا يحتويها بهالة الانتماء والأمان، أين يركن الأمان؟
تعاودها رغبتها برؤية أخيها، فرؤيته ستضخّ في أوردتها الأمان، أوَهل من طريق لِلُقياه؟ أن تلتقيه ولو لمرّةٍ واحدةٍ في حياتها، مرّة واحدة، وستملأ قَدر استطاعتها قِدر قلبها المُقفِر.
لقد كان يقطن في خافقها، ما بين أوردتها، حيث نبضاتها، ينسّق وتيرة خفقاتها، إنّه وهمٌ ليس إلّا، سرابٌ نُسج من مخيّلة طفولتها، لم تره قط حقيقةً في أيّامها، إلّا أنّها كانت تلتقيه فقط في أوهامها، إنّه طيفٌ كانت تلاحقه دومًا في صِغرها، حيث يملأُ لقاؤها به ابتسامة منه تغمرها طمأنينةً وسكينةً، وإذا استقام ليغادر، تُناديه بصوت قلبها المكسور: "أخي! .. هل نلتقي؟" فيُغادرها سرابُه الّذي تتأمّله وتتنفّس وجوده، لتختنق ما بعدها بطول غيابه.
لكنّهُ سراب… وهل يبقى؟
مجرّدُ وهمٍ ليس إلّا، تعيشُ ذلك الوهم الجميل بأحلام يقظتها.. كان بمثابة سعادتها الروحيّة، والآن تجد أنّ سعادتها تلك، قد انسابت ببطئ منها، والمسار إليه باتت نهايته مقطوعة.
هدوء….
فجأةً خمد الضّجيج الّذي كان يجتاح أرجاءها، وطغى الصّمت على نشيجها. تمتمَت :
"أخي! .." فاغرورقت سماء قلبها بغماماتٍ رماديّة، وأحاطت وجهها بكفّيها تتلقّف ندى دمعها، همست ورنت في أوتار صوتها نغمةٌ حزينةٌ كالنّاي: "أخي أين الحياة بدونك؟ أين السّعادة؟ أين السّلام؟ أين النّور؟ أين أجدُ ملاذًا آمنًا أحتمي به من حُطام هذه الأرض وخرابها الأليم؟ أودّ دثر الجميع إلّاك، أودّ أن تكون معي لتحميني من وطأة الانكسار، لتُضمّد شقوقي بضماد حُبّك، أين كفّيك لتُكفكف العبرات المُنسالة على وجنتيّ؟ أين حُضنك لتُحيطني به مُنتشلًا رجفتي؟ كلُّ ما يغزو فؤادي هو المعاناة! أخالُني على شِفا حُفرة من الموت! هاك كفّي وخُذني إليك بعيدًا عن كلّ هذا الركام الّذي يودي بروحي للحُطام، خُذني عاليًا إلى الغمام، فغيمتُك اكتفت من مطرها، لقد بكت بكثرة، وشهقاتها تتسابق بجنونٍ مع نبضاتها، غيمتُك في أوجّ بؤسها، وفي أمسّ الحاجة لك، لدثر ضعفها"
كانت مقطوعةُ صوتها المخدوشة تبعثُ غصّةً في أعلى الحلقوم، وتقبض القلب ما بين كلّ نبض.
برويّة ربّت كفّ على كتفها، وهمس صوتٌ دافئٌ تسلّل إلى قلبها قبل أُذُنيها: "إنّكِ تُغرقينني بعُمقٍ في سماويّة عينيك الغارقة يا غيمتي!"
فانتفضت أطرافها، ورفعت رأسها باتّجاهه ببطئ، أهي تهذي مجدّدًا؟ ورأته! لقد كان طيفُه الملائكيّ يقف مواجهةً لها وينظرُ لعينيها بابتسامته المُطمئنة، همس: "إمطار عينيكِ يحرقُ فؤادي! يا أُخت فؤادي!" فنظرت إليه بترجٍّ، لحظتئذ كانت الرّؤيا ضبابيّة لكثرة عبراتها… وكما كان يفعل في كلّ لقاءٍ خفض لها جناحيه وأحاطها بهما، هنا انبعثت في قلبها أمواجٌ دافئة، غمرتها من أقصى الوريد إلى أقصى الوريد، وانهمرت قطراتٌ من المطر مُمتزجةً مع عبراتها، فمدّ أخاها يده ومسح لها بلطفٍ وجنتيها، ممزّقًا بابتسامته أحزانها، مغرقًا إيّاها بالسّعادة، لم ينطق ولكنّ عيناه نطقتا، قبل أن يقف مغادرًا، فوقفت على أثره، وأحسّت بنبضها ينبضُ بقوّةٍ من جديد، ثمّ ابتسمت بدورها، لم تفرح يومًا برحيل طيفه عندما كانت طفلة، لكن الآن كانت تجتاحُها مشاعرٌ في أيسر صدرها، كأنّ أخاها قد خلق لها جناحين في خافقها يخفقان، يخبرانها أنّه حيٌّ بداخلها ولا يخفى أبدًا عنها، ولهذا وفي لحظة الوداع هذه لم تكتئب، بل نادتهُ بصوت قلبها المسرور: "أخي! .. عهدًا عليّ سنلتقي" فغادرها سرابُها الّذي أخذت تتأمّلُه وتتنفّس وجوده، لم تختنق ما بعدها بطول غيابه لأنّه كان حيًّا في فؤادها.
لكنّهُ سراب… وقد يفنى!
لم تعد الحياةُ قاسيةً بتاتًا من وجهة نظرها، ولم تعد تعي أيّ شيءٍ يرتبط بالحُزن أو الكآبة المؤلمة، وأصبحت ترى بأنّ الحياة لطيفة لا ظُلم فيها.. شمسُ قلبها تُشرق كلّ يوم، والقمرُ لا يخفى عن لياليها، تُعانق سماويّة السّماء بملئ رؤياها، ولا تكتفي السّعادة من احتضان روحها البريئة، لا يكتفي نسيمُ الرّبيع من احتضان رئتيها، الّذي يأتي مُحمّلًا إليها بالزّهور الأقحُوانيّة، تغمُر ابتسامة البهجة شفتيها الورديّتين، إذ ما عادت ابتسامتها تلك تتقوّس للأعلى يومًا، إنّما ذلك كلّه يحدث بسبب مُخيّلتها وطريقتها في رسم حياتها بكلتا يديها، تنثُرُ ألوانًا مفعمةً بالروحانيّة هنا وهناك، ترسُمُ مسارات الأمل لتعبُر عليها برويّة، مُلقيةً بعينيها بريقًا من ضحكةٍ عفويّة، تُزيلُ من سماءها تلبّد الغمامات الرماديّة، عاكسةً عوضًا عن ذلك السُّحُب النّاصعة البياض الّتي تسبحُ في زرقة السّماء الأخّاذة، حيث شعاعُ الشمس يعبر من خلالها، مُجتازًا شغافها، مُشرقًا مبسمها، لم تكُن تُدرك أنّ مخيّلتها قد تطغى عليها بشكلٍ جنونيّ، وأنّها قد تُصدّق أوهامها الّتي رسمتها، أنّها قد تُصدّق بأنّه أصبح روحًا مجنحةً من روحها! إلّا أنّها تُدرك أنّ كُلّ تلك السعادة لم تكن نابعةً من ذاتها وحسب، ففي الحقيقة كانت خيوط سعادتها تلك مخيّطةً بخيوطٍ من روح أخيها، ذلك الأخ كان مجرّد وهمٍ اختلقتهُ من نسج عقلها، ومع هذا فهي مقتنعةٌ بتواجُده حقيقةً معها، لقد كان الأساس في جعل السعادة رفيقةً لمُقلتيها.
صارت في كلّ ليلةٍ بجانبه وقبل أن تغفو تقول لطيفه ونغمة صوتها الطفوليّ يتردّد ببراءة: "ابقَ بقرب قلبي يا أخي، ولا تضّلّ نبضك عن نبضي، ابقَ!"
وتلقاهُ وكُلّها لهفة، حيث الغمام المركون في سماءها، حيث أحلامها!
رغد بَشبَش

0 تعليقات