حيث مأمني | ريان عواطّة


"حيثُ مأمني.... "

أنهيت محادثة مع صديقتي، بكيت بحرقة دون أن أخبرها بذلك، وبلّلت دموع ساخنة وجنتيّ، قبل أن تنسال أكثر لتلامس عنقي دون حياء

شعرت بوخزة في أيسر صدري، مسّدت موضع الألم بيدي علّه يستكين ويهدأ، بينما نهضت ﻷصلّي.

أذكر جيّدًا أنّني غادرت غرفتي وقتها، وناديت والدتي كثيرًا لكنّها تجاهلت ندائي.

تهيّأ لي أنّ صوتي كان خافتًا فلم تسمعني.

توضّأت ودخلت غرفتي مجدّدًا.

ارتديت ثياب الصلاة الّتي بدت لي فضفاضة؛ يومئذ لم أعر الموضوع انتباهًا أكثر.

صليت ركعتين فالثالثة، سجدت مكاني بضع دقائق أدعو ثم استلقيت على سريري. بعد حين طرقت أختي الباب، جلست بجانبي حدّثتني بكلام لا أذكره ثم غادرتني. سمعتها تخبر أمّي أنّني نائمة، فتذمّرت من كذبها، تبعتها والدتي، رأيتها تقترب منّي وتضع يدها فوق يدي، طلبت منّي أن أستيقظ، لكنّني لم أشعر بلمستها حينها، ولم أستيقظ رغم أنّه ليس من عادتي أن أجافيها أو أتهرب من إحدى أوامرها ربّما غضبت من تصرّفي فنادت أبي الذي حملني بسرعة وركض بي. في البداية ظننته يمازحني، خرج من المنزل يحملني بين يديه، ناديته وضربت بيديّ على كتفيه ليتوقف، لكنّه لم يأبه بي، وضعني في السّيّارة متجاهلًا صراخي ولكماتي التي لم تترك أثرًا على كتفيه رغم قوّتها، توقّف بعد دقائق أمام مبنى كبير ، وضعوني بغرفة مستشفى، أحاطوا قلبي بأسلاك كبيرة، واستلم جهاز الصّدمات زمام حياتي، بينما استمرّ جهاز غبيّ آخر يركن أمامي بصراخ كدوي الرّصاص ملوّحًا للجميع بلافتة رُسم عليها خطّ مستقيم موحي بالفقد.

حاولوا كثيرًا أن يوقظوني ظنًّا منهم أنّي نائمة ثم نظروا إلى بعضهم مستائين بعد ما خيّبت آمالهم جميعًا، لم أقوَ على النّهوض ولم يكن باستطاعتي أن أخبر أحدهم أنّني أسمع وأرى كل شيء، لكنّهم هم الصّم البكم العمي. نقلوني إلى غرفة باردة بوجوه أهلكها الحزن، ألبسوني ملابس بيضاء قبيحة، آه أمّي كم مرّة أخبرتك أنّني أحبّ الّلون البنفسجيّ فقط، كيف تسمحين لهم بأن يأتوا لي بأبيض باهت كهذا؟

مرّت ساعات، أخذوني بعدها إلى مكان بعيد، صرخت والدتي كثيرًا وطلبت أن تراني، أودعني والدي في قبو مظلم كالّليل، تسائلت وقتها كيف للأب أن يرمي ابنته في العتمة بنفسه؟ ألا يشعر بغصّة في القلب وقرحة في الرّوح؟ حينئذ أحكموا إغلاق الباب عليّ، صرخت حتى بحّ صوتي، ضربت على الخشب بكل ما أوتيت من قوّة، ذرفت من الدّمع لكنّ لا جدوى، كان صوت أقدامهم الرّاحلة آخر ما سمعت على تلك الأرض، ووجوهكم أوّل ما رأيت.

هنا حمدت الله أنّهم ألبسوني الأبيض قبل قدومي وإلّا بدا مظهري موحشًا بالبنفسجيّ أمامكم.

الآن .. وأنا أراهم من هنا أدرك تمامًا أنّ أختي ليست كاذبة، وأنّ والدتي حينما نادت والدي ليأتني ليست غاضبة، إنّما ثكلة، وأدركت أيضًا أنّ والدي عندما أودعني أمانة عند الرّب أودع قلبه وروحه معي، وأنّه برحيلي ما عاد ينبس بحرف، لطالما كنت بيت سرّه فرحة أنتظرها لأعوام.

يحقّ لي أن أزوره مرّة وأخبره أنّني سعيدة جدًّا هنا علّه يطمئنّ عليّ ويجبر كسر قلبه؟

أيحقّ لي أن ألمس كفّيه النّاعمتين ، أن أضمّه وأقبّل وجنتيه وجبينه؟


ريّان عوّاطة


إرسال تعليق

0 تعليقات