- حين نقرأ قصائد الغزل والحب، الشوق، و البكاء على الأطْلال، تغمرنا مشاعر ألمٍ وحسرة، خاصةً إن عَلمنا أن وراء هذه الأبيات والبحور والقوافي والمشاعر قصة واقعيّة حقيقيّة. وأنّ كاتبها عانى كثيرًا بسبب محبوبه، كـ "قيس بن الملوح" المعروف بـ "مجنون ليلى" نسبة إلى ليلى العامريّة. "كثير بن عبد الرحمن" الملقب بـ "كثير عزة". "جميل بثينة" وغيرهم الكثير…!
لكن هناك قصة واحدة تفعل بي مالا تفعله غيرها، أحببتها منذ صِغري، كنت أقرؤها مراتٍ ومراتٍ وأنا صَبِيَّة الثماني سنوات، لم ولن أملَّ منها.
كَبرتُ وكَبر معي تعلُّقي و شَغفي بالقصة، حفظتها عن ظهر قلب، حفظت سورتها ومعانيها، بدأت البحث في أدق وأبسط تفاصيلها، فقرأتُ عدة رواياتٍ من شتّى ديانات ومذاهب، ومن مختلف وجهات النظر.
قصة هيام وعشق السيدة زليخة لنبي الله يوسف، كانت ولا زالت أعظم ما قرأت، خاصّة من وجهة نظر أهل الهوى فهي مثيرةٌ حقًا، بأدّق وأبسط تفاصيلها، فقد غلب عليها طابع الحب والهوى من طرف واحد، وهل يوجد أقسى من معاناة الحب وحيدًا والمحبوب لا يدري ولا يهتم لأمرك؟!.
بل أشد من ذلك هو بجوارك لكن لا تستطيع وصله، فأَمَرُّ ما نَلقى من الهوى قُربُ الحبيب وما إليه وِصال. كالعيس في البَيداء يَقتُلها الظمأ والماء فوق ظهورها مَحمول.
من أول ما أعجبت به خلال عملية بحثي، أنّ السيدة زليخة أمرت السّجان بجلد يوسف؛ لكي تسمع صوته بسبب اشتياقها له، فاتفق السجانُ مع يوسف أن يضرب السوط في الأرض و يصرخ هو متألمًا.
في اليوم التالي قالت زليخة: آمرك بضربه، لا أن تفعل ما فعلته أمس، وإلا ستحاسب.
- بل نفذتُ أمرَك سيدتي.
- كاذبٌ! لو فعلتَ ذلك لكنت أحسست بألمِ السوط على قلبي، قبل أن يصرخ يوسف.
تساءلت هل ما قرأته صحيح، وهل لهذه الدرجة يمكن أن يصل الحب؟ ولكن لا يهم، ما يأخذ عقلي حاليًا عُمق المعنى والرسالة التي توصلها القصة.
جوابًا على سؤالي وجدت أنّ السيدة زليخة كانت تراقبه وتتَقصَّى أخباره، تذهب أينما ذهب، بعدما أفنت ثروتها، جاهها، جمالها، جلالها، خدمها وحشمها في سبيل محبوبها. ظلّت معها فقط وصيفتان، بعدما عزَّ عليهما تركُها وقد ذبلت وتقَوَّس ظهرها حبًّا، بعد أن انطفأت شمس عينيها، صار يوسف الشمس لذاتها، فقدت بصرها لكن بصيرتها متقدة بنار العشق التي تلْحَف قلبها وتُحرِقُه.
أفنت سيدة مصر ثلاثين سنة من حياتها في احتمال اللوم، الكلام اللاذع والشعور بالذل، فقد جعلها العشق تَفعل مالا يُفعَل، حتى قالوا عنها مجنونة، وأصبحت محطّ سُخريةٍ للجميع.
ضاعت ثلاثون سنة في البكاء والنواح والجري من زقاق لزقاق تَتبَع ريح يوسف.
كل هذه السنوات من محاولة الوصل و الجري السريع، كان جزاؤها الفقد البطيء. رغم ذلك لم تستسلم، كانت تخرج لرؤية يوسف في أحلك الأجواء، كان البرد قارسًا والأمطارَ الغزيرة عندما علمت بأنّ يوسف بالجوار، حاولت أحد وصيفاتها اعتراضَ طريقها ومنعها من الخروج حتى يهدأ الطقس، فصرخت:
-أتُسَمُّون الجلوس في البيت عشقاً ؟! لو أمطرت السماء حِجارة سأذهب لأرويَ روحي.
- أما مللتِ من الانتظار؟!
- ما بكما لا تفهمان أنَّ انتظار يوسف هو كل حياتي، لم يبقَ لدي شيءٌ في هذه الدنيا إلا انتظاره.
في لحظات خلوتها حين يعتصر الشوق أضلعها، وتلفح نار الصبابة قلبها، تسيل دموعها حارة تشوي الخدود، تصرخ باسمه عالياً ،تشكوه منه إليه، تصرخ معاتبةً:
- يوسف، ما أقلّ وفاءك، يا قاسي القلب، سوف أشكوك لربك! انظر ما الذي جنيتَه علي، كم علي الانتظار؟ أين أنا، وإلى من سألجأ؟ هذه ليست حالة عاشق، إلى متى هذه الوحدة والغربة؟ إني أموت مئات المرات في اليوم شوقاً إليك، ألف ضربة بالسيف، وألف طعنة بالرمح أهون عندي من فراقك ليوم واحد.
حتى أنها عبدت رب يوسف طمعًا في التقرب منه:
- أنت في كل مكان هذا ما كان يقوله يوسف، أنت ترى كل شيء وتعلم بحالي، إذن أخبر يوسف أن زليخة تركت عبادة الأصنام.
مرت أعوام أخرى من الأشواق والعتاب، وأدمنَتْ عشقاً قاتلاً لم يرحمها، وجعلته كالسوار في معصمها، أسكنته قَلبَها فأشعَل في الجوى ناراً لَظاها من سَعيرِ جَهَنَّم.
ويومَ مَنَّ الله عليها، طُلبت إلى القصر من طرف الملك، وما إن دخلت حتى قالت:
- إني أشم رائحة يوسف نبي الله!
اقترب منها أمام جموع الحضور وهو في حسرة واستغراب:
- زليخة، أهذه أنت؟
أجابت والدموع الحارّة تعبر الطريق الذي سبق وحفرته على وجنتيها:
- كنتُ يوما أنا، الآن أنا أنتَ، لازليخة في الوجود. ألن تسألَني عن جاهي وجلالي أين أصبح؟
- أخبروني أنكِ أفْنيتِه في سبيل يوسف.
- ألن تسألني عن حُزني، عن حسني و جمالي كيف ذبل؟
- ألمُ العشق يُذيب القلب ويجلب الهم. أخبريني أين أصبح كل هذا العشق ليوسف؟
- ذلك العشق مازال قائمًا، لقد حافظتُ عليه داخل قلبي وغَدَوْتُه بكل وجودي.
اعتذر منها يوسف على غفلته عنها، وأن ذلك حدث بمشيئةِ مَن هو أقوى منه. سألها أن تطلب منه ماتريد.
- ماذا فقَدتُ لأطلب، أردتُ محبوبي وهو الآن بجواري، أردت مَعبودًا وأنا الآن في حضرته، بقي لي رؤية يوسف وذلك يحتاج عينين بصيرتين وأنا لا أملكهما.
بدأ يوسف يدعو ربه ويتضرَّع إليه أن ينير عينيها، ويُحقِّق مبتغاها، فاستجاب له ربه وردّ عليها بصرها، وكان ذلك من بين معجزات نبوة سيدنا يوسف.
وما إن لمس النور حَدقَتَيْها، وتَوضَّحَت ملامحُه لديها، حتى صاحت: يوسف! ومدامعها لا تكف عن السيلان.
- انظري جيدا هل ترين الجميع؟
- أنا أراكَ أنتَ فقط، و لا أريد إلا أن أراكَ أنت.
كنتُ قد طلبتُ من ربكَ أن يعيد النور إلى عينَيَّ المُنطفِئتيْن؛ لأراكَ بهما مرة أخرى، وفي هذه البُرهَة القصيرة لا أريد أن أرى غيرك.
تُضيف وهي تمسح عينيها بحنق ولهْفة:
- أيتها الدموع الساخنة ماذا تريدين مني! يكفيني ما أحرقت به وجهي سابقًا، دعيني أتزوّد برؤيةٍ واضحة لـ "يوسف" في لحظات عمري الأخيرة.
وأنا في خِضَمٍّ اندماجي في كل ماسبق أقف مذهولة لا مصدقة ما قرأت؛ كل ذلك لديه احتمالين إما الصواب أو الكذب.
لكني لشدة تأثري اخترتُ الصواب، فقد عشت كل التفاضيل والحوارات بدقة لامتناهية، حين أتخيل مقدار الألم، الحسرة، الدموع والعشق القاتل الذي لا يرحم، أؤمن يقينًا أنه بإمكان الضحية أن تغرم بقاتلها أو بجلادها.
فألا بالله خَبِّروا يا أهل الهوى! هل يجوز الصفح عمّن يذنِب، وهو من كأس الخطايا يشرب؟ وكيف أعفو عن حبيبٍ قاتلٍ، وهو مازال لقتلي يطلب؟ فظلم ذوي القُرْبى أشَدُّ مَضَاضَة على المَرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.
0 تعليقات