جسدّ شاحِبٌ كالدينارِ الزائف في صُفرَته، شعرّ أشعثَ أغبَر، أطمارٌ مهترِئة، ممتلئة بشقوقٍ كأنها أرقامٌ من وجعٍ أعدُّ بها ليال عذابي .
ينتابُك ألفُ شعور في الدقيقةِ الواحدةِ حينَ تسمعُ أصواتَ نعالٍ متّجهةٍ نحوكَ، و عيناكَ معصوبتان بشكلٍ مُحكمٍ، تعتمدُ على حاسّة السمع لتدركَ ما يجول حولك.
المكان هنا في ظلامٍ دامِسٍ كَـ لونِ الغرابيب السودِ كظُلمةِ قبورِ السجنِ، مُظلمٌ و ضيّقٌ.. فأنتَ هنا منحشِرٌ بين أربعةِ جدرانٍ متهالكة اِستقرت بها أعشاش عناكِبَ سوداءَ هرِمة وبعض الجرذان الضخمة.. قد اِتخدت من الجدران مأوىً لها.
سكونٌ يخيّم على غرفةٍ نتنةٍ مُتصدّعةٍ بصرخاتٍ و أنينٍ.
سكونٌ.. لدرجةِ أنك قادرٌ على أن تصغي لدقاتِ قلبك المُرتجفة، و صوت زفيركَ المتقطّع المُتعب...
فجأةً.. تسمعُ صرخاتٍ تتوالى وتتعالى في إحدىٰ الزنازين المجاورة، عندها بشكلٍ لا إرادي تشعر ببرودة تبدأ من قدميك الّلتان تضربان ببعضهما البعضِ من الهولِ والذُعر، إنتهاءً بِرعشةٍ كاملةٍ في جسدكَ المتصبّبِ عرقاً و رُعباً.
تجزُم أنكَ لن تقدِر بتاتاً الوقوف من مجلِسك، منشَغلٌ عقلُكَ في دوّامة التفكيرِ لما سيؤول إليهِ الحالُ بك بعدَ قليل..
تبدو الأيامُ طويلة جداً، وكأنّ عقاربَ الساعةِ قد أصيبت بشللٍ تام، كمفاصِلكَ الصدئة.. لاحياة تسكن فيها.. لا تستطيعُ الحِراك.. كلّ شبرٍ فيك يؤلمك كأنّ جسدَك أشلاءٌ ممزّقة.
أتعلمين يا ورد.. لقد نسيتُ تماماً شعوري عندما تَلفحُني أشعّة الشمس بخيوطها الذهبية، فتعكس ضياءها على وجهي فأردّ عليها بنظراتي الناعِسة..
كم أحنّ لحيّنا... وتذمّر أمي كلّ صباحٍ عندما تدخل لغرفتي فتراها مقلوبة رأساً على عقب... أحنّ لجدالي مع أبي في حديثي معه حين أحاوِل أن أُثبتَ له بأني أصبحتُ قادراً على تحملِ مسؤوليّةِ نفسي بِنفسي... كم أشتاقُ لضعفي معهم يا وَرد..
جلّ ما أفكر به الآن كلابيب الزبانية هذه، التي تقيّد يديّ وقدميّ، تحتَكُّ بجلدي الشاحِب، لينتج عن هذا الإحتكاك سحجاتٍ مؤلمةٍ، تزدادُ ألماً عند كلّ حركة و سُكون... ليسَ لديها أيّ وقتُ لتطيبَ حتى تُغرَس هذه القطع المعدنيّة في الجلدِ مرةً أخرى مترافقة بألمٍ مُبرِح و بِضع قطراتِ دمٍ، و كأنك تغرِس أسلاكاً شائكةً في جرحٍ غضٍ دفعةً واحدة، كأنّ الألمَ بخرجُ من صُلبِ عينيك،لا تدري من أينَ يبدأ ولا أينَ ينتهي...
أتحسّس بجسمي موقِعَ الألم الذي تركه السياطِ، كان يتخطّفني من كل جانِب، ينهش عظمي قبل لحمي،
وخز و وجع حد الموت ثم لا أموت بعدها
مالي لا أرىٰ النور..
أينَ الحَياة..
أين الفضَاء الفسيح..
ما أبشعَ الظلامَ هُنا يا وَرد.. كلّ شبرٍ فيّ يلعنه
أقول لا بأس والبأسُ كلّه في صدري.
#الزنزانة_رقم_خمسةَ_عشر
#مُذكرة_مُعتقَل
- إسراء هِشام يوسُف📓🖊️

0 تعليقات