عابرات السرير لهنّ الأفضلية في توثيق متاعب المرء فوق أجسادهنّ همّاً همّاً،
وحرفاً حرفا. ولا بد أن الأسرّة ليست موطئ أقدام لعاهرة وعاهر دوماً، بل فيها من
الصدق والسلام ما يبعدُ الإنسان عن كيانه، ليرتجف بعد الهدنة التي قد عقدها مع
الحياة، ناسياً ما مضى خلال الساعات الأخيرة.
لربما كانت رجفة ما بعد النشوة أمرٌ طبيعيّ لكل نادم ومعترف بالذنب، لكن ماذا لو
كانت أسبابُ فقدانَ الوعي معروفة لدى البشر... أكنا سنشهدُ حينها قصصاً عن
التجارب السريرية؟ أم كنا سنلتقي المذنبين وهم يحاولون تبريرَ كلِّ شيءٍ متذعرين
بحجّة بلهاء وهي أنّ أسبابَ الذنوب المعروفة تمسح الذنب وتبرّره!
إنّ صراعَ العقلُ الباطني والقلب الباطني، صراعٌ لا مهرب منه في مثل هذه
الحالات المستعصية.
فالذكرُ مثلاً، يتأرجحُ مابينَ الطرفين ليكتشفَ مبرراً لما يريد
فعله، والأنثى تحاولُ البقاءَ على مقربةٍ من خطِ العودة خوفاً من طارئ قد يحصل.
وهناكَ تتلاقى الشفاه المشتعلة ألماً لتقذف بالتهم والعتب على الآخر.
هناك في بؤرة السياحة والمناخ اللطيف، هناكَ في جزيرة مايوركا، هناك حيث
الأماني تتناغم بين الشوارع والشواطئ فيلتقطها صاحب الحظّ السعيد.
هناك، حيث يقطن آدم في شقّةٍ صغيرةٍ.. يزورها لنيلِ أقساط الراحة حين عودته من
العمل في حانةِ بالما الكبرى.. ولإقامةِ بعض الحفلات المنزلية ذات الطابع الغريب
حيث هو الضيف، وصاحب الحفل.
تجاوره حواء، تلكَ الفتاة المهووسة بالرقصِ والغناء،
التي لم تؤمن يوماً بوجود علاقة أقدس وأسمى من الحب.
مساء أيلولي ماطر-السبت-١٣/٩/٢٠١٩
مساء شاعريّ إلى حد جنون الحواس وافتعالها الذنوب.. وبينما كانت حواء عائدة
إلى شقتها المجاورة لشقة آدم، أثقلها التعب عند أول خطوةٍ على السلّم، ولم تقوى
على متابعة الثلاثين درجة التي أمامها، فوقفت.
وقف في الحين ذاته آدم ليبدأ ممارسة هوايته، حيث يخرج الشاب الذي قد دفنه في
أعماقه منذ سنتين، ولا عليه سوى أن يعطيه مشغل الأغاني وسماعة كبيرة وبعض
النبيذ المعتّق الذي صنع في قبو والد صديقه في لبنان. وتبدأ حين اكتمال هذه
الطقوس، حفلته الخاصة لحرق كل ما في داخله من طاقة مكبوتة.
آن أوان الحفلة، فلم يتبقى غير الدقائق القليلة على اكتمال آدم الطفوليّ..
مكثت حواء لامتصاص الدّوار الذي أصابها، علّها تكمل طريقها نحو غرفتها
لترتاح:
"أجهل كيف يكون في هذا الشارع اللطيف، بناية كهذه ذات السلالم القذرة.
لماذا بقيت هنا لا أعلم؟! كان الأجدر بي أن أنتقل حيث السماء تلاحقني فلا تمسك
بأصابعي البتّة.. كان الأجدر بي أن أجاور القمر، وضجيج النجوم...
مهلاً، لربما كنتُ فعلاً أجاوره!"
ابتسمت حواء لتذكّرها جارها غريب الأطوار الوسيم ذو اللحية المبعثرة فوق
خديه.. وتابعت صعود السلالم علّها تلتقي به، فينسيها متاعب هذا البناء المفتقر
للنظافة والمرح والحياة.
في لحظة ولادة آدم من قلب آدم وفور اكتماله، أمسكه ليجالسه قليلاً، كما لو كان
غريقاً وقد دخل بعض الأوكسجين رئتيه.. فسارع لاستنفاذه واستغلاله..
وقف آدم وليد القلب ليواجه عرّاب العقول والحكيم آدم الكبير...
- "أجبني أيها الشقي، فانتَ لديك الذاكرة العاطفية التي لا تنسى موعد عودة حوّاء
من العمل، فأخبرني متى عليك بدء الحفلة" (قال عقل آدم)
- أهدأ أيها الضخم الحائر، ما بالك كما لو كنت قد عشقتها من صميم فؤادك؟
- "أنا لا أعشق، فقد علّمني أبي أن أتزوج من تحبني لأكون سعيداً، ومع مرور
الوقت سأحبها وأعتادها... لكنني لن أعشق أيها المراهق الأبله"
-لو لم تكن قد أحببت، لما خلقتني بهذه السرعة وقبل ميعاد حفلتنا بخمس دقائق.
- "حسناً ربما كانت تروقني تلك البيضاء الهيفاء، أعترفُ يا صديقي"
- تروقك إلى درجة أن تستبق الأحداث لتخرجني من قعر قلبك فقط لخوض حوار
يمتد لخمس دقائق تتوقعه أن يلهمك الإثارة لتثيرها! أهكذا يكون الإعجاب أيها
الحكيم الواعي؟
- "إن سخرتَ مني سأرجعُك إلى حيثِ دفنتك منذ سنتين"
- إنّه أفضل حلّ للتخلص من رجفة يديك يا صاحبي، صرّح آدم وليد القلب مبتسماً
وكأنّه قد كشفَ لآدم الحكيم حقيقة مشاعره.
وبينما كان آدم يشهدُ صراع قلبهِ وعقله، بدأتْ حوّاء بالصعود هوينة هوينة، تحاول
أن تعيدَ إلى ذاكرتُها موسيقى جارها الأسبوع الفائت، فكانت كلّما حرّكت خصرها
حركتين متعاكستين، شرب آدم كأساً دفعة واحدة...
يمين ثم يسار..
كأس نبيذٍ معتق..
يسار ثم يمين..
كأس آخر..
يمين وكأس، كأسٌ ويسار..
والحديث أصابَه البكم فوق السرير عند منتصف الليل...
ما انفكّتْ الدموعِ تتسارعُ لتقبيلِ وجنات المذنبين فور استيقاظ الوعي لديهما، كأنّما
وجه النشوة والسعادة سقط عند صحوتهما..
- كان من الأفضل لنا يا حواء أن نفتتح حفلتنا بالبكاء لا أن ننهيها به.
- ما الفارق مادام الذنب سيُرتكب شئنا أم أبينا؟
- ربّما!
لكنّ أحزاننا قد كانت لتتفوق على كل حاجاتنا الجسديّة، فلا نقع في بئر الظلمات
هذا.
- حاجتك انت، أما أنا
فلا حاجة لي بهذه الأمور، وإنّما حاجتي للحب كانت طاغية.
- أو هكذا نحصلُ على الحبِّ؟
- كيف سأصل ليسارِ صدرك إن لم أكن ساقطة في عين نفسي، فلم أعرف في
قصص الحب الواقعيّة سوى صراع الرجل مع فتاته لإقناعها بما يسعده، وإن
رفضت، سقطت، وإن وافقت، سقطتْ.. فما حالُنا نحن لا رأي ولا حيلة لنا.
- هل تقرأين كثيراً؟
- ما هذا البرود يا رجل!
- أجيبيني.
- نعم أقرأ في شهرٍ أكثر مما قد تقرأه انت في سنة.
لماذا تسأل؟
- لربما فاتك قراءة بعض قصائدي عن قضايا المرأة في كل المجتمعات.
- كيف تناصرُ المرأة وانتَ قد انتزعت للتوّ روحاً كانت ترجو الحب منك لا أكثر؟
- كيف تلومين الرجال على ذنب ذكرٍ واحد؟
- لا تجبني بسؤال، فهذا يستفز أعصاب وجهي.. دعني أكمل نحيبي.
- بل سأدعُكِ تفكرين بما سأقولهُ لكِ يا جميلتي..
كان آدم في أمس الحاجة لإخفاء مشاعره ليتكلم بنضجٍ وشفافية وليحاول تهدئة حواء
التي ماتزال تمسح عن خديها دموع الندم.
لم تدم مدة تحضيرُ آدم لسحرهِ فيما أرادَ قوله، فأفصَح عن أفكارهِ جاعلاً من حواء،
أنثى صامتة تسمع خطاباً مسّها من الداخلِ وأوقفَ بكاءِ عينيها:
لنقلِ أنّ كلانا يحملُ ذنبَ هذه المعصية العظمى.. وأننا في حاجةٍ للبكاءِ حقاً، لكنّ
الندمَ لن يدومُ إن حاولنا تحليل الواقعة وفهمها.
هناك حاجة يا حواء، وهناكَ وسيلة، وكما زعمت شفاهُكِ أن ذنبك هو وسيلة،
وذنبي هو الحاجة.
حسناً.
سأقصّ عليكِ رواية قصيرة جداً عن ملكٍ تزوجَ فتاةً من عامةِ الشعب، فتاةً تحلم
بالسلطةِ والقوّة للتخلّص من فقرها وحرمانها.. غايتُها واضحة في نفسها، ولا حاجة
لها للزواجِ من ملكٍ لولا أنّها الوسيلةُ المتاحة للحصولِ على السلطة. والملكُ يريد
طفلاً ليرثه الحكم بعد موته.. كلاهما استخدما الزواج كوسيلة..
كما نحن قد استخدمنا الجنس كوسيلة للوصول إلى الحب. سواء اقتنع قلبكِ بأنّ
غايتي هي الحب أم لم يقتنع، فهذه هي الحقيقة.
لن تلعبي دور الضحية فوق سريري يا صغيرتي، فأنا ضحية مثلك..
ولن تكوني السادية التي تحمل اللوم كله لتذهب بعيدا، لأنني سأنتشل الذنب منكِ إن
حصل هذا.
كلانا مخطئ عزيزتي، فلا تحاولي التبرير
وما يمكننا فعلهُ الآن هو أن نعرف الأسباب الحقيقية دون نفاق، علّنا نتخطى ما
حصل فيصبحُ الملكُ عشيقَ الفتاةِ لا زوجها فقط، وتصبح الفتاة ملكةً للعرش ولقلب
الملك، الذي سيستعمرُ قلبها بكلِّ حنانٍ وحب.
وقفت حواءٌ ونظرتْ إلى أرجاء الغرفة بلهفةٍ تريد عناقَ الهواء فيها، وتريد تقبيل
كل ذرة خرجت من فاه آدم..
تعجبَ آدم مما يحصل لحواء فسألها:
- هلّا تشرّفني جلالة الملكة باعترافها الكامل؟
- إنني يا آدم لن أنكرَ أننّي قد اتبعتُ قلبي الذي سبقني نحو بابكَ وقرع الجرس
بوريدهُ قبل أن أقرعَه أنا بأصابعي المتلهّفة..
لكننّي أيضاً لا أستطيع الإيقاعَ بنضجك وعقلك هذا كي أتخلّصُ من شعوري بالذنب
العظيم.
ربما كنتَ محقّاً أنني أحملكَ الذنب كما تفعل كل فتاة في مثل حالتي التي لا أُحسد
عليها، لكن لنكونَ واضحين أكثر.. هل هناك ما هو أفضل من تكليل الحب بالزواج؟
- الزواج مقبرة الحياة كما نعرف
- ورحم الروتين أيضاً..
- هل نتزوج للتخلص من ذنوبنا؟ أهذا كل ما تريدهُ الملكة الآن؟
- آدم! أنا ضائعة ومشتتة، اعذرني اعذرني.
كنتُ أسمع ضجيج حفلاتك كل يوم واعتقدت بأننّا سنحيا بوقتٍ مرحٍ لو أنني
دخلت لحفلتك مرتدية وجهي البريء المضجج بالسعادة، لم أعلمَ أنّك تفعل هذا
لوحدك، وحينَ اكتشفتُ هذا لم أستطعَ منعَ نفسي من التفكير أنّك قد تعمّدت فعل هذا
لنكن سوياً ولأنّك توقعت مجيء جارتك الجميلة.
هامتْ مشاعري التي كتمتُها كثيراً، ظناً مني أننّي لن احظى بمن يكترثُ لها،
واشتعلت نيران جسدي فكان الرقص بين ذراعيك أفضل من أيّ قصةِ حبٍّ قد
تشهدها مسامعي وناظري معاً.
لقد كنت أحتاجُ من يكترثُ لي لا أكثر.
تصاعدتْ دخان سجائر آدم حاملةً معها أنفاسه حين قال لحواء أنّه لن يتركها
مادامت مشاعرها حقيقية، ومادامَت واثقة منها.
واستمرَ الصمتُ بضعَ دقائق، قبل أن تقف حواء لتلملم أشيائها المبعثرة، متمتمةً
ببعض الكلمات غير المفهومة، متجهةً نحو باب المنزل بخطواتٍ متثاقلة، حيث أن
لا رغبة لديها في الرحيل...
فتكسر حاجز السكوت هذا باعتراف صادقٍ لا ريب فيه:
- لن تفلت مني أي حفلةٍ لزوجي المستقبليّ الذي سأعرفه أكثر صباح الغد، والذي
سيعرفني وسيكتشف أنني أتابع أخبار كتاباته دون أن يعلم.
- أحقاً ما تقولين؟
وقبل خروجها أفصحتْ شفتاها، الملطخة بالدمعِ، لآدم ذاك الذي ركض مهرولاً
راجياً البقاء:
- أعلمُ أنه من الأجدرِ لنا أن نتقابلُ كما يفعل المتواعدون والعشاق، وأن من واجبنا
جلبَ الهدايا والورود لبعضِ البعض، وأننا بعد شهرين ستزورني في بيتي
وستعرفَ أهلي وأقاربي.. وأنّك ستجري حديثاً مع والدتك تخبرها بأمري وأن هناك
زواج ينتظرها..
لكننا نستطيعُ اختصار كل هذا بعناق واحد، يكونَ بمثابةِ إمضاءٍ على معاهدة البقاء
حتى انتهاء المشاعر.
- سأخترع لكِ خصيصاً مشاعراً جديدة لم يشعر بها أحد.
ذهبَت حواءٌ لمنزلِها وضجيجِ تلك الغرفة يملئ رأسها، ولم تقوى على التوقفِ عن
التفكيرِ بكل ما حصل..
وعلمَت فورَ وصولها البيت أنّها لو استطاعَت فكّ شيفرة مشاعرها قبل الخطيئة، لما
كانت تدين لإبليس بروحها.
وقررتْ هجرَ البناء والمنزل ومايوركا وكل ماضيها..
قررت عقابَ يديها التي عانقتْ ووقعتْ عهد البقاء..
قررت استئصَال لسانها الذي اعترفَ بالحبِ وخطّطَ للزواجِ ممن قد اقترف الذنب
معها.
ثم فعلَت ما قررتُه أولاً، وتجنبت ثانياً، وطعنت بالحكم الثالث.
لربّما كان جنون الحواسِ أمراً في غاية الخطورة. ولطالما كانت المبالغة في الحبِ،
وسيلة لتهدئة من يحبِّنا ولخلقِ مسافةٍ نستطيعُ الهربَ بفضلها.
ومن المؤسفِ ألّا يصل الحبُّ إلى انهيار الذّات, فالحذرُ من ضجيجِ الأسرّة واجب على العشّاق.
لا عفّة دون محبة, ولا ذنوباً تستطيعُ اختراق أسمى مراحل الحبّ,
ألا وهي الانهيار..
عيسى ماهر

0 تعليقات