زهراء قريع | بداية النهايات
أكتوبر 03, 2020

رُبّما البداياتِ تكون الأسبقُ لنا من النهاياتِ.
أو لرُبّما تكون دليلاً واضحاً مفتوحاً أمامنا كي لا نتعثر في خطواتنا.
لكنْ ماذا إنْ كان العكسُ هو الصحيح؟
وداهمتنا النهاياتِ لِنصافحَ البداياتِ بأكفٍ كادحةٍ
وبنصفِ جسدٍ نهرولُ كي لا نكون منسيين في طيّ الحياةِ.
_بدايةُ النهاياتِ
بينَ أزقةِ المستشفى هنالكَ أبوابٌ تتصدعُ تكادُ من هولِ قوتها أنْ تُتلَفَ، الأشياءُ تتحركُ بسرعةٍ ،الأضواءُ تنطفئ وتعودُ لطبيعتِها بينَ غمضةِ عينٍ وأُخرى ، صوتُ صريرٍ على حيطانِ الغُرفةِ رقمُ سبعة؛ كأنّ أحدهُم التهمَ الحائط بأظافرهِ، مواءُ قطط بشكلٍ مفزعٍ كأنّ قيامةً ستقومُ بأيةِ لحظةٍ.
أنا آدم فيِ الثلاثين مِن عُمري، أبيضٌ بحُلةٍ سوَداء
بشوشُ الوجهِ ،صارمُ الملامحِ ،
أعيشُ في منهاتن/نيويورك.
آدم، هكذا أطلقَهُ والدي عليّ .
الألف ممدودةٌ كإمتدادِ الأرضِ والسماءِ الدالُ من اسمِ أُمي والميمُ هي ثالثُ أحرفُ أبي .
أحرُفي متفرقةٌ كإخوتي الثلاثة المغتربين
زارنا الموتُ أثناءَ ولادتي وفارقتني أمي دونَ وعيٍ منّي .
ترعرعتُ عند أبي الّذي قضمَ مَن لُقمَتِهِ لِيُطعمَني .
ويُسقيني من رحمِ رحيقهِ،
نِشأَ على تعليمِي كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ، قامَ بدورِ الأم والأب يسهرُ لِمرَضِي يَبتسمُ لِضحكتِي ،
ربّاهُ لو لمْ يكنْ أبي لَحسدْتُ أولادَهُ عليهِ.
حصلْتُ على شهادتِي الثانويةِ بعلامةِ إمتيازٍ ،
هذا ما دفعَنِي لِأدخلَ كليةُ الطبِ البشري دونَ ترددٍ
رُبّما قسمٌ أقسمْتُهُ منذُ صغري أنْ أُضحي بنفسي من أجلِ راحةِ غيري .
عملْتُ بمستشفى للجراحةِ وبعدَ ذلك تخصّصْتُ بتشخيصِ الأمراضِ النفسيةِ ، حيثُ تمَ نقلي بعدها لمستشفى خاصٍ بعلاجِ الحالاتِ النفسيةِ في منهاتن.
النهارُ الأولُ بدأ كنسمةٍ ربيعيةٍ داعبتْ وجنتيّ
المستشفى كانَ هادئً ،الصمتُ وحدهُ كانَ حاضراً يُخالطُ أنفاسي ويحتسي معي كوباً من الهدوء .
بدأتُ أُقلبُ بأضابيرِ المرضى وأسماؤهم ،جميعهم حالاتٌ متشابهةٌ ،صدماتٌ عاطفيةٌ وأُخرى إثرَ نوبة فقدٍ كانت!
كنتُ محملقاً ساكباً جُلّ تركيزي على تلك الحالاتِ ، لم أجدْ حالةٌ أستثنيها عن الجميع فكافتهم بالكفة سواء.
كوبُ الشاي لم يفارقني منذُ الصغرِ حتّى هذه الثانية التي أخطُّ بها قصتي التي انتهتْ بالبدايةِ وابتدتْ بالنهايةِ.
خطواتِ عقاربُ الساعةِ تسابقُ النبضُ الذي في قلبي أيُّهما سَيجَري أسرعُ.
فكل شيء باَت روتينياً، بين مسَتشفى ومنزل لا شيء جَديد وهَذا ما جَعل فوهة الملل تغلَب محُيطيِ، والحزُن قد استعمرني بعد فقدي لوالدتي رغم أني لم أرها
بعد منتصفِ الليلِ جرسُ الإنذارِ قطعَ شرودي المحتمِ
هنالك حالةٌ خطرةٌ في الإسعافِ .
هرولتُ مسرعاً لكي أُلقي نظرةً عن قربٍ ،
كانتْ فتاةٌ ترتعشُ كأنّها صادفَتْ شيئاً ما
تصرخُ بشدةٍ مفزعةٍ ، تصدرُ تمتماتٍ جهلْتُها،
ريحٌ قويةٌ هبَّتْ فانفتحتْ النوافذُ،
إنارةُ المستشفى بدأتْ ترتعشُ ، ذهبَ أحدُهُم ليكتشفَ العطلُ.
ألقيتُ عليها نظرةً سريعةً دامتْ لدقائقٍ، لم تكن مجردُ فتاةٍ .
شَعرُها كالليلِ الطويلُ ، خُصلاتُهُ كأنَّها التماوجُ بين غيمةٍ وسماءٍ .
رقيقةٌ في الوصفِ ، شفتَاها مشتَلُ وردٍ يتسابقُ النحلُ لأخذِ رحيقهِ منهما .
حقنْتُ بذراعِها إبرةِ مهدئٍ، وقامَ بعضُ الممرضين بنقلِها للغرفةِ .
بدأتْ تفتحُ جفنَها بصعوبةٍ بالغةٍ .
تقدمتُ في الخطى لمْ تكن قدماي بل كانَ قلبي هو الذي سبقني في الخُطى .
مرّرتُ لها بعضاً من الماءِ ريثما تستعيدُ حركتها.
اخترقتُ الصمتَ في تلك اللحظةِ كإختراقِ الرصاصةِ في الزجاجِ .
آدم: ما اسمكِ؟
تجاهلتْ سؤالي وقالتْ من أتى بي إلى هذا المكانِ؟
آدم: لا أعلمُ، لكنّ الحارسَ وجدكِ مرميةٌ عند بابِ المستشفى، فقمتُ بنقلكِ إلى الغرفةِ ريثما تستيقظين لتخبريني من الذي جاءَ بكِ إلى هَنا،
صمتتُ لبرهةٍ، كأنَ الكونَ وقفَ لثانيةٍ ليسترحْ قليلاً،
قررتُ اقتحامَ الصمتِ فينةٍ أُخرى .
آدم: ما اسمكِ؟
_حواء، اسمي هو حواء يا...؟
قُلتُها متلهفاً :آدم.
ابتسمتْ قليلاً وأغمضتْ عيناها.
حواءُ، أهَي تلكَ التي أسقطتْ آدم من الجنّةِ؟
حواءُ أسقطَتْ قلبي مِن بين أضلعي .
في الساعةِ السابعةِ مساءاً طرقتُ البابَ لأدخلَ عليها
تكْ تكْ تك ْ.
حواء :تفضل .
آدم :كيف أصبحتِ؟
حواء: في صحةٍ جيدةٍ .
آدم: سأتركُ لكِ المساحةِ كي تخبريني، مَن الذي جاءَ بكِ إلى هنا ؟
حواء: ذاكرتي مشوشةٌ قليلاً، لا أذكرُ تفاصيلَ كثيرةٍ، ما أذكرُهُ أنّني كنْتُ أصرخُ مستغيثةً .
على حينِ غفلةٍ بدأتْ تتراقصُ الإنارةُ وصوتُ صريرٍ خفيفٍ ،
التفتُ هينةً عليها وجدْتُها تمسكُ رأسَها بين يداها وتقولُ لا تأخذوني اتركوني وحدي أرجوكم .
وفجأةً همدَ جسدُها وخرَّ كضريحٍ لا يفقَهُ شيئاً.
الإنارةُ عادتْ لطبيعتِها والصوتُ اختفى تماماً ،
رائحةٌ نتنةٌ هبّتْ داخلَ الغرفةِ شعرتُ وقتَها بالغثيانِ ،
قمتُ بفتحِ النوافذِ ليتجددَ الهواءُ قليلاً.
أقتربتُ منها حسبْتُها قد ماتتْ لوهلةٍ أولى،
شَعرُها انتصبَ ، وجهُها أقرب للزُرقةِ.
اجفَلَ جسدي منها، ابتعدتُ عنها لثانيةٍ ثُمّ عدّتُ لِتفَقُدِها .
حرّكتْ رمشها وبدأتْ تُصدرُ أنيناً، اقتربتُ منها أشدُّ عُري الخوفِ الذي تسللَ داخلي .
إستعادتْ وعيها .
حواء: ما الّذي حصلَ ؟
آدم: ألا تذكُرين؟
حواء :أذكرُ أنَّهم جاؤوا يُكبلونني مِن قدماي ويجُرّاني دونَ شفقةٍ.
آدم: لكنْ لمْ يدخلْ أحدٌ إلى هنا سواي؟
حواء: بلْ كنْتُم ثلاثةً ،أنتَ وغيرُكَ اثنان.
آدم: يبدو أنَّكِ تعبتِ كثيراً ، فلتستريحي قليلاً لتعاودي سردَ قصتكِ إليّ
حواء: حسناً ، أنا في صحةٍ جيدةٍ، سأروي لكَ قصتي :
درسْتُ في علمِ النفسِ قسمُ المنطقِ وتخرجْتُ منهُ بمعدلِ جيدٍ جداً ، وحيدةٌ لوالديّ لا أدري لما كنْتُ وحيدتَهم لكنَّهم دائماً يقولون أنّهم اكتفوا بي،
بعدَ تخرجي مِن الكُليةِ أحببتُ العلومَ الشرعيةَ كجانبٍ دينيّ يُكَمِلُ حياتي، كنْتُ أحضرُ دروساً وأقرأُ بعضاً من الكتبِ الخاصةِ بالدينِ .
منذُ بدايتي في دراستي للشريعةِ ؟
داهمتْ الأحلامُ نومي ،لمْ أعدْ أتذوقُ طعمَ الراحةِ في النومِ،
كوابيسٌ تخترقُ نومي، تجعلني أستيقظُ مرعبةً مزرقةُ الوجهِ ومتلخبطةُ الكيانِ، حالتي زادتْ سوءاً، مِّمَ جعلَ والداي يخافانِ عليّ فامتعنتُ مِن إكمالِ دراستي في العلومِ الشرعيةِ ،
لكنَّ الكوابيسَ زادتْ جرعتُها كجرعةِ الأفيونِ التي دسسْتَها أنتَ داخلَ أوردتي .
آدم في نفسهِ: رباهُ كمْ تشبهُ زهرةُ الكوبيةِ إنَّها مليئةٌ بالحكمةِ أكادُ أشعرُ بجمالِ عاطفيتِها تنبعثُ من بين بؤبؤتَها .
عُرضتُ على أشهرِ الأطباءِ النفسيين لكنَّهمْ عَجِزُوا عن تفسيرِ حالتي حتّى ظنّ البعضُ أنَّني متلبسةٌ بعفريتٍ.
في يومٍ كئيبٍ شحيحِ الليلِ سمعْتُ أصواتاً وتمتماتٍ حولي، حسبتُ أنّي أتخيلُ ما أسمعُهُ، نظرْتُ للمرآةِ فوجدتُ اثنان عريضاً المنكبين مِثلُكَ تماماً، شعرْتُ بشعري قد انتصبَ شامخاً من الخوفِ .
اثنانِ يتشابهانِ في البنيانِ، لمْ أستطعْ أنْ أُدققَ بملامحِهما فهي مرعبةٌ، وجهٌ غير مكتملٍ أسنانٌ بارزةٍ صوتٌ أجشٌ يصدرُ صريراً خافتاً، يمسكان جنازيرَ ويتقدمان إليّ كي يسلبونَني إلى عالمِهم كما سلبُوا أمي من قبلي .
صرختُ مستغيثةً لكنَّ أحدَهم انقضَ على فمي ووضعَ يدهُ الغليظةُ عليه ليسكتَنِي مِن بعدِ تلكَ الحادثةِ التي شهدتُها ،بدأتْ تصرفاتِي تزدادُ غرابةً قد قتلتُ والدي بكلتا يداي طعنتُهُ بسكيناً عدةَ طعناتٍ مِّمَ أدى إلى إصابتِهِ بنزيفٍ حادٍ وفارقَ الحياةَ .
لمْ أصحو على نفسي إلّا والدمُ غارقٌ أرجاءَ الغرفةِ.
آدم: ولكنْ كيف حصلَ هذا؟
كيف قمتِ بقتلِهِ؟
حواء: وأنا مثلُكَ لمْ أفقَهُ شيئاً مِّمَ فعلتُهُ ولكنّني تفاجئتُ برسالةٍ تركتْها أمي في إحدى دروجِها.
آدم: ماهي؟؟
حواء: كتبتْ لي رسالة مخطوطةً بحبرِ الرعبِ الّذي انسكبَ داخلَها :
((إبنتي العزيزة، لطالما كان يداهمُكِ السؤالَ عن كونِكِ وحيدةً لنا، الآن آن لي أنْ أخبرَكِ أنَّ أمُكِ نصفَها من عالمِ الجآن، وأنّ أباكِ إنسانٌ بفطرتِه وفي قاعدةِ العالمِ السُفلي لا يجوزُ للجنيةِ أن تتزوجُ بشرياً وإنْ تزوجتْهُ فلن تنجبَ منهُ أطفالاً وسيقومُ جنودُ الملكِ من الجآنِ بقتلِ الأمِ أو بخطفِها لتعودَ لموطنِها الأصلي.
لكنْ أحببتُ أباكِ كثيراً وهذا ما جعلَنِي أُضحي بقبيلتِي التي لا تعترفُ بهذا الحبِ من أجلِهِ ، منذُ أولُ ليلةٍ لي مع أباكِ بدأوا بمطاردتِي، أصواتٌ مرعبةٌ، ومواءُ هرةٍ، روائحٌ نتنةٌ، حينها أخبرتُ أباكِ وحزرّتُهُ أنّهم سيقتلونهُ إنْ لمْ يتخلَ عنّي، لكنَّ حبَّنا قد فاقَ كلّ شيءٍ.
الحبُّ يا إبنتي إنْ دخلَ للقلبِ لا يخرجُ بسهولةٍ بتاً،
وقد أكتملَ حبُّنا حينما جئتِ أنتِ، لمْ نكنْ نتوقعُ أنَّنا سننجبُ أطفالاً ولكنّنا تفاجئنا حينما وصلتْنا ورقةٌ من مخبرِ التحاليلِ أنَّ التحليلَ الّذي طلبناهُ إيجابياً .
الفرحةُ لمْ تسعنا، أنْ يكللَ الحبُ بالزواجِ وبعدها طفلٌ صغيرٌ ، استيقظنا في الصباحِ ووجدنا عبارةً مكتوبةً بخطٍ عريضٍ بالدماءِ_ قد اقتربَ موعدُ القطافِ_ كانتْ رائحةً تُثيرُ الغثيانَ كُتبتْ العبارةُ بدماءِ الهرةِ التي تصدرُ مواءاً كلّ ليلةٍ منذ أولُ يومٍ دخلتُهُ إلى هذا المنزلِ.
قُطِعَ رأسُها وكُتبَ بدماءِها على الحائطِ
حزرّتُ والدَكِ أنْ يهربَ قبلَ أنْ يقتلُوه، أو أنْ يقومُوا بخطفِي، سأُحاولُ أنْ أُساعدَكِ بأصدقائي إنْ تمكنتُ ، فأنتِ تمتلكين قوةً خارقةً تجعلُكِ تُحركين الأشياءَ من حولِكِ ، يمكنُكِ رؤيةُ القرينِ الخاصِ بالبشرِ.
عليكِ أنْ تقدِّمي قُربانَين اثنين كي يتمَ تخليصُنا من أيديهم الباطشةِ.
أحبُّكِ ابنتي.
أمُكِ... ))
آدم: تنفستُ الصعداءَ وقلتُ: أظنُّ أنَّ أمَكِ هي مَن ساعدتْكِ للمجيء إلى هنا؟
حواء: بالطبعِ .
آدم: عليكِ أنْ تأخذي بعضاً من الدواءِ لِتنامي قليلاً.
ابتسمتْ وما أبهى ابتَّسامتها تَلكَ.
حواء: ستساعدُني أليس كذلك؟
آدم: بالطبع
حواءُ ليستْ بمريضةٍ نفسيةٍ كما هُم يزعمُون،
إنَّها نصفٌ من الجآنِ ونصفُها إنسانٌ .
ما الغرضُ الّذي جاءَ بها إلى هُنا؟
لمّا أتتْ لمستشفى خاصاً بالأمراضِ النفسيةِ أو الأصحُ أنْ أقولَ أنَّ أمَها هي التي أرسلتْها إلى هُنا.
فحالةٌ مثلُ هذه يجدرُ بها المكوثُ بعيداً عنْ هنا
كانتْ ليلةً هادئةً عدّتُ إلى المنزلِ لأجدَ أبي ينتظرُني كعادتِهِ دائماً، ينتظرُني في أوقاتِ عودتِي لنتحدثَ سوياً.
ستائرُ عيناي باتَتْ تُرخِي نفسَها، لتعلنَ عن نومي دونَ حراكٍ،
العَرَقُ يصبُ من جبينِي ،أشعرُ بِكِلتا قَدمَاي مُكبلتان، لا أستطيعُ الصراخَ ، رائحةٌ تغزو حجرتَي أنفي .
الصوتُ ذاتُهُ الّذي ترددَ داخلَ مسمعي في المستشفى
ظننْتُ أنَّني أهذي، صوتُ المواءِ والصريرِ .
فتحتُ عيناي بصعوبةٍ فائقةٍ ، لمْ أجدْ شيئاً، لا صوتٌ ولا رائحةٌ ولا شيءٌ يُذكرُ ، ظننْتُ أنَّني أحلمُ بكابوسٍ .
تلوتُ بعضَ الآياتِ ونهضْتُ مسرعاً ووقفْتُ أمامَ المرآةِ كي أصففَ شعري ، ما هذا دماءٌ؟
مِن أينَ؟
لا أذكرُ أنَّني جرحْتُ نفسي ما هذا؟
لربّما أهذي لا وقتَ لدي للتفكير ِفأنا تأخرْتُ للذهابِ للمستشفى.
انتصفَ النهارُ بدَأتْ الشّمسُ كأنّها أُحجيةٌ تُلقي لُغزَها علينا.
لاحظتُ حركةً غريبةً جداً سألْتُ أحدَ الممرضين فقالَ لي أنَّ المستشفى ليلةُ أمسٍ لمْ يهدأْ ، الروائحُ الكريهةُ بدَتْ كأنّ أحدَهُم يحرقُ شعرَهُ أو جلدَهُ .
الأصواتُ أفزعتْ المرضى، وتلكَ الأصواتُ تنبعثُ من غرفةِ رقمُ سبعةٌ.
تركتُهُ يتكلمُ وذهبْتُ مسرعاً لغرفةِ حواءٍ.
دفعتُ البابَ دونَ إذنٍ.
كأنَّها ملائكيةُ في الوصفِ لا أنكرُ أنَّها قد شدتْني إليها منذُ اللحظةُ الأولى.
شَعرُها الّذي أخذَ حيزاً من طولِها ووجهِها الّذي تدورُ كأنّه البدرُ مكتملاً، نائمةٌ كحورياتِ الجنّةِ.
لمْ أشأ أنْ أصدرَ صوتاً بلْ جلستُ متأملاً أَعدُّ رموشَ عيناها وكنْتُ أُخطئُ لأُعيدَ العدّ كنوعٍ من الإحتيالِ
حواء: الطبيبُ آدم؟
آدم: كيفَ حالُكِ؟ هل أنتِ بخيرٍ؟
حواء: لستُ كما عاهدتَني ، ولكنّني الآنَ أصبحْتُ بصحةٍ جيدةٍ ، عندما رأيتُكَ .
آدم: مبتسماً فلتبقِ دائمًا مِنْ أجلي.
استدعَانِي مديرُ المستشفى لتشخيصَ حالةِ مريضٍ ، وهذا أدى إلى احتجازي معهُ كي يتحسنَ نفسياً، ابتعدتُ عن حواءٍ مغلوبٍ على أمري ،لأتفاجئ بحضورِ طبيبٍ جديدٍ لتشخيصَ حالةُ حواءَ.
إستشطتُ غضباً ، بدوتُ وكأنّني بركانٌ سينفجرٌ بأيّةِ لحظةٍ ، شعرتُ أنَّهم أختطفوا قلبي من بينِ أضلُعي
وددتُ لو قُمتُ بفكِّ عُنقِ ذلكِ الطبيبِ المعتوهِ.
كنْتُ أتأملُها من خلفِ الزجاجِ، كانتْ تجولُ بناظريها ملءَ المكانِ وهو يجلسُ يبتسمُ لها كأنَّها وجبةٌ شهيةٌ!
أحقاً أحبّها ما هذا الشعورُ الّذي راودني إنَّ غيرتي كرصاصةٍ نائمةٍ ،كبركانٍ كالهشيمِ في الجحيمِ ،لمْ أتقبلْ وجودَهُ ولمْ تتقبلْهُ هي أيضاً.
عملْتُ جهدي لأستعيدَ تشخيصي للغرفةِ رقمِ سبعةِ ولحُسنِ الحظِ أنّ ذلكَ الطبيبُ أُختلَ عقلُهُ من تلكَ الأصواتِ التي سمعَها بعدَ أسبوعٍ لهُ، فقدّمَ استقالتَه،ُ وعاودتُ عملي في تشخيصِ حالتها.
كنْتُ أمشي بينَ أزقةِ المستشفى .
وضعتُ يدي على قلبي كانَ ينتفضُ أكادُ أشعرُ بُخطى قلبي وهو يسيرُ .
حواء: إنَّهُ آدمُ قادمٌ أليس كذلكَ يا قرينُ؟
إنَّني أحبُّهُ وهو أيضاً أشعرُ بهِ ، كمْ تعجبُني غيرتُهُ .
آدم: كيفَ حالكِ مع طبيبُكِ الجديدِ؟
حواء: آدم أنا أعلمُ أنَّك تحبُني وأنا كذلكَ، قرينُكَ أخبرني بكلِّ شيءٍ عنك، أنا السببُ في تخلّي الطبيبُ عن تشخيصِ حالتي لتعودَ أنتَ إلي، حرّكتُ بعضاً من الأثاثِ هنا، فاجفَلَ ورحلَ.
نهضتُ من سريرِها فانتفضَ القلبُ وتشتتَ الكيانُ ،
تقدمَتْ نحوي احتضنتْني كانَ العناقُ أشبَه بعناقِ النبيذِ للكأسِ، كأنَّها خدّرتْني بإبرةِ مورفين بدوتُ كطفلٍ وجدَ أمُهُ بعدَ أعوامٍ من البحثِ عنها.
حواء ويدُها على يدي: آدم عليك أنْ تُخرجَني من هنا وفي الحالِ .
آدم: كيفَ؟ ولماذا؟
حواء: الأمرُ بسيطٌ، اذهبْ للمديرِ وقلْ لهُ أنّني لستُ بمريضةٍ نفسيةٍ وأنّ أشْهُرَ العلاجِ تلكَ باتتْ بالفشلِ ،لأنَّني في صحةٍ جيدةٍ وليسَ بي خطبٌ أو ما شابهُ .
آدم: أومأتُ برأسي وقلتُ لها سأساعِدُكِ وأخرجُكِ مِن هنا وسنتزوجُ، هل توافقيني؟
حواء: بالطبعِ ، سنتزوجُ فورَ خروجي مِن هنا، ولكنْ قبلها علي أنْ أفعلَ شيئاً صغيراً من أجلِ أمي!
آدم :حسناً
صداعٌ في الرأسِ يكادُ يُتلفُني، ذهبْتُ إلى المديرِ وبدأتُ بإعطائه مبرراتٍ على أنَّ حواءَ سليمةٌ مِن أي مرضٍ نفسي لا أعلمُ لما فعلتُ هذا، أيعقلُ الحبُّ؟
هل تخليّتُ عن شهاداتي بدافعِ الحبِّ؟
لا يهمُّ ، المهمُّ أنَّنا سنبقی سوياً ،المناكبُ سوياً والأيدي متشابكةٌ مع بعضها.
قامَ المديرُ بقبولِ طلبي وأخرجَها .
آدم: الآن يمكنُكِ الخروجُ من هذا المكانِ .
حواء: لن أنسى ما فعلتُه من أجلي، وأنا عندَ وعدِي لكَ بالزواجِ ، لكنْ قبلَ ذلكَ عليك أنْ تأتي معي لمكانٍ ما ، ومِن بعدِها سنتزوجُ .
آدم: طوعُ أمرُكِ مولاتي.
ما هذَا المكان يا حَواء؟
لِما أتيْنا إلى هنا ؛ وفي هذا الوقتِ المتأخرِ من الليلِ؟
الساعةُ الآنَ بعدَ منتصفِ الليلِ .
حواء: كي أزورَ قبرُ أبي قبلَ أنْ نُتمَ مراسمُ الزواجِ.
اشعلْ الكشافَ الخاصَ بك يا آدم .
آدم :حسناً .
حواء: أعطَّني بعضاً من الترابِ .
آدم: لِما؟
حواء: أعطني حفنةً واحدةً.
آدم: حسناً .
مددّتُ يدي كي التقطَ حفنةُ ترابٍ، شعرتُ أنّ جسدي بثقلِه ملأ الأرضُ .
رائحةُ دماءٍ ورائحةُ جلدٍ مُحترقٍ .
قطةٌ سوداءٌ تصدرُ صوتاً مُفزِعاً تخللَ أُذناي.
أصدرتُ أنيناً ، فتحتُ عيناي ،لمْ أشعرْ بقدمي لوهلةٍ أولى ، شعرتُ أنَّني في قبري أُداري سوءتي .
وجهٌ بشعٌ بفمهِ قطعةٌ من اللحمِ ،رائحةٌ نتنةٌ، تقيئتُ ما كانَ داخلَ جوفي .
لِما لا أشعرُ بقدمي، لمْ أجرُؤ على النظرِ إليها فالذي أمامي شخّصَ بصريٌ.
آدم: حواء أينَ أنتِ ؟
صرختُ بملء قواي التي خارت من هولِ ما رأيتُ
سمعتُ مواءاً في جانبي، تجاهلتُ الصوتَ خوفاً من مفاجئةٍ كالذي أمامي، شُلّتْ حركتِي تماماً عندما بدأتْ الهرةُ بالتكلمِ .
حواء: تجسدتُ بالهرةِ كي أُقدمَكَ قُرباناً لهم أنا أعتذرُ لكَ حقاً، لمْ أحبّكَ لكنَّني أتخذتُكَ حبيباً كي أنجو.
أختفتْ الهرةُ من أمامي .
بدأ الكائنُ أمامي يلُوكُ قطعةَ اللحمِ تلكَ ،ويتلاشى شيئاً فشيئاً .
حركّتُ بناظري للأسفلِ ، الصدمةُ التي اعترتْني أدتْ إلى فقدانِ نُطقي ، هرولَتْ الأحرفُ تتساقطُ.
الكائنُ المشوّهُ كانَ يمضغُ قدماي.
قدماي مهشمتانِ لا أقدرُ على الحِراكِ.
وغبتُ عن الوعي .
بعدَ شهرين.
استيقظْتُ على صوتِ تمتماتٍ فوقَ رأسي وتنهيداتٍ تُطلَقُ ،حرّكتُ رأسي ،كانَ والدي فوقَ رأسي يتلو علي آياتٍ من القرآنِ .
سألتُهُ من الّذي جاءَ بي، وما الّذي حصلَ ؟
كانَ يبكي بحرقةٍ علي ، قالَ لي: إنَّهم وجدوني على قارعةِ الطريقِ .
أتحدثُ مع نفسي بكلماتٍ صعبةٍ للغايةِ وأحرفٍ مقضومةٍ وقدماي مهشمتان لا أستطيعُ السيرُ ،
فقاموا بنقلي للمعالجةِ ومِن بعدِها تفاقمَ وضعي حيث أنِّني بدأتُ أبكي كثيراً وأهذي كثيراً.
_نهايةُ البداياتِ
أنا الآنَ في ذاتِ الغرفةِ، في ذاتِ المستشفى.
الطبيبُ الّذي عالجَ جميعُ الحالاتِ النفسيةِ وتفوقَ بدراستِهِ
هو الآن يُعالجُ..
زهراء قريع
0 تعليقات