ترعرعَ وكبُرَ آدم وهو يصطادُ السَّمكَ، كانَ صياداً ماهراً، في كلِّ صباحٍ يركبُ قاربَهُ الصّغير ويغوصُ في أعماقِ البحرِ، لا يعودُ إلَّا عندَ الغروبِ لبيعِ ما اصطادهُ في سوقِ السَّمكِ.
دائماً عندَ دخولِهِ السُّوقَ ينادونَه "جاءَ القُبطانُ"، كانَ هذا اللَّقبُ المعروفُ فيهِ بالسِّوق لقوَّتهِ وقدرتهِ على القيادة البحريّة، فیتسارعون نحوهُ ليشتروا ما اصطادهُ، فقلَّما يجدون صياداً مثلهُ، فسرعانَ ما یبيع صيدَهُ ليكملَ أفضلَ هواياتهِ، يتَّجِهُ إلى غرفتهِ الصَّغيرةِ حيثُ الكتب، وبالرُّغمِ من كونهِ صياداً وقبطاناً إلَّا أنَّهُ مفكِّرٌ وقارئٌ معروفٌ بوسطهِ الأدبِيِّ، في نهایةِ كلِّ أُسبوعٍ كانَت لديهِ أمسيةٌ أدبيةٌ في دارِ الفكرِ، يحضرُ فيها مجموعةٌ منَ المفكِّرينَ والقرَّاءِ ليطرحوا ويناقشوا أموراً عدة.
یومُ الخميسِ أمسيةٌ أدبيةٌ بعنوانِ (عبقُ الُّلغةِ العربيّة)، حضرها الكثير منَ الأدباءِ والمفكِّرين وأَقبلَ إليها القرَّاءُ والمهتمُّونَ.
- لقد كانت أمسیةً رائعةً أیُّها القبطان! كم لكَ تحضِّرُ لها؟
- سأخبركَ یا صديقي، سأخبركَ، ولكن.. ولكن علیكَ أوَّلاً أن تخبرني من تكونُ تلكَ الفتاة؟ لأوَّلِ مرةٍ أراها في الدَّار!
- ما بِكَ یا قبطانُ ؟ البحرُ ليسَ هنا لاصطيادِ الأسماكِ، أم أنَّها أدهشتكَ بأسئلتها واستفساراتها!
- طابَ مساؤكُما، مرحباً أستاذ آدم، حواء طالبةُ ماجستير في علمِ النَّفسِ، دعاني زميلُكَ للحضورِ، لم یكن لديَّ صبرٌ على عدمِ الحضورِ، وخاصَّةً بأنَّ هذهِ الأمسية تخصُّ الُّلغةَ العربيّة، وثانيا لكثرةِ ما حدَّثني زميلي عنكَ.
- بانَت عليكِ علاماتُ الفلسفةِ من أوَّل سؤالٍ لكِ، تشرفتُ بكِ.
هل تذكرینَ هذا الِّلقاءَ؟ عندما كنتِ متلبِّسةً بثوبِ الفتاةِ المثقفةِ الجمیلةِ، تباً لذلكَ الصَّوتِ الِّذي أطربَ مسامعي، فمنذُ سماعهِ ما عدتُ قادراً على النَّومِ من دونهِ، كان صوتكِ يرافقُ أمواجَ البحرِ ونسيمَ الصَّباحِ، ذاكَ الصَّباحُ الَّذي قضينا ليلتهُ بوسْطِ البحرِ، نتحدَّثُ، نتناقشُ ونتحاورُ.
لن أنسى أيَّ كلمةٍ تحدَّثناها، كانَ الحوارُ طویلاً وقصيراً لأنَّنا كُنَّا وحدَنا، أسئلتُكِ المتعلِّقة بالدِّینِ والتَّديّنِ تميلُ دائماً نحوَ الإلحادِ، كانَت تعشعشُ فكرةُ الَّلاعبوديةِ ونحنُ أحرارٌ.. بأفكاركِ الفلسفيّةِ كنتِ تحاولينَ غرسها بذهني، لمَ ؟!
لم أجِد لهذا السُّؤالِ حلَّاً، لم أحاول أن أسالكِ عن دينكِ، ولم أسألكِ بأيِّ دين تدينينَ، لكنَّكِ دائماً تسألين.
في الجُمعة الثَّانيةِ منَ الشَّهرِ الرَّابعِ (أمسيةٌ جديدة)، لقد كنتِ أكثرَ جمالاً من المرَّةِ الأولى، شَعرُكِ المجعَّدُ كانَ أكثرَ فتنةً من عینیكِ الواسعتينِ، لكنَّ أفكاركِ كانت أكثرَ فتكاً.
انتهتِ الأمسيةُ.
- "أستاذ آدم" لقد أخبرني صدیقي بأنَّكَ قبطانٌ ذكيٌ ذو مهارةٍ عاليةٍ بالصَّيدِ والبحرِ، علاماتُ الذَّكاءِ بدَت واضحةً عليكَ من أوَّل أمسيةٍ أحضرها لكَ، لكن لم أرَ براعتكَ في ركوبِ البحرِ وصيدِ السَّمكِ.
كم كنتِ ساحرةً آنذاكَ حتَّى مِن خلالِ كلامكِ كنتِ تسحریني، اتَّفقنا على موعدٍ لرحلةِ صيدٍ بوسْطِ البحرِ، موعدُ الرِّحلةِ الأولى السَّابعةُ صباحاً.
انطلقنا بالقاربِ نحو أعماقِ البحرِ، جلستِ بجانبي تبادليني النَّظراتَ بأطرافِ العين، نظراتكِ غريبة شيئًا ما، بداخلكِ كلامٌ كثیرٌ لم تبُوحي بِه بعد.
باصطيادِ أوَّلِ سمكةٍ بدأتِ بالغناءِ، كانَ صوتكِ هذا یأخذني إلى عالمٍ بعيدٍ جداً، لم تنته من الأغنیة بعد، بادرتِ بسؤالكِ
- آدم، هل الله موجودٌ حقاً وهل أنتَ من أصحابِ هذا الرَّأي؟
لقد اقشعرَّ بدني لسؤالكِ هذا، لم أمتلك جواباً لحدَّتهِ، سكتُّ قلیلاً.
ثمَّ بدأَ الحوارُ والجِدالُ الطَّويلُ على وجودِ الله ووحدانيته، لم أتخیَّل من أسئلتك سوى أنَّكِ ملحدةٌ، لاتؤمنينَ بوجودِ اللهِ، كم كنتُ غبياً عندها، لم يتبادر لي أنَّكِ أسوأ من هذا.
دائماً عندما أطلبُ منكِ الأدلَّةَ على أجوبتكِ كنتِ تغیِّرینَ السَّؤالِ بطريقةٍ ذكيّةٍ، تغنینَ أحيانًا، وأحياناً تلعبينَ بالماءِ، أسئلتكِ الَّتي تخصُّ اللُّغةَ العربيّةَ كانت بنداً في كلِّ نقاشٍ لنا، في كلِّ رحلةٍ، لقد كنتِ مشغوفةً بالعربيَّة.
في الرِّحلةِ الرَّابعةِ ظهرت علاماتُ الحبِّ لديَّ، لم أستطع إخفاءها، كذلكَ أنتِ، تبادليني نفسَ المشاعرِ والأحاسيسِ، ولكنَّ قسْماً من الحياءِ كانَ يمنعُكِ منَ البوحِ حتَّى أتت الفرصةُ المناسبةُ.
-حواء، سأقولُ لكِ شيئًا يخصُّكِ أنتِ _بانت على وجنتيكِ علاماتُ الاستغرابِ، وربَّما علِمتِ ما سأقولهُ لكِ_
حواء لديَّ مشاعر تجاهكِ ربَّما تسمَّى بالحبِّ.. نعم "أحبُّكِ" لقد فتنتِ قلبي من غيرِ شكٍّ، ابتسمتِ وقلتِ ها نحنُ في الثَّلاثيناتِ من عمرَينا، وكأنَّنا مازلنا في العشريناتِ، تورَّدت وجنتاكِ وقلتِ: آدم، وأنا كذلكَ، كرَّرتُ سؤالي ماذا؟! ماذا قلتِ؟ آدم وأنا كذلك لقد وقعتُ بشباككَ أيّها القبطانُ، أنا أيضًا أحبُّكَ.
أتذكرین.. أتذكرين ؟ أنا على ثقةٍ بأنَّكِ لن تنسَي أبداً رسالتي الأولى:
عزيزتي حواء..
لقد طالَ غیابكِ عنِّي، في نهایةِ كلِّ أمسیةٍ أبحثُ عنكِ بینَ الحضورِ، في موعدِ كلِّ رحلةٍ كنتُ أنتظرُ قدومكِ، ما عدتُ قادراً على التَّحمُّلِ، ما عدتُ قادراً على النَّومِ، ابتعدتُ كثيراً عن البحرِ لألَّا اسمعَ صوتكِ مع كلِّ موجةٍ، ما عدتُ أطيقُ الفراقَ، بانتظارِ قدومكِ بفارغِ الصَّبرِ (أحبُّكَ). آدم
بعد عشرِ رسائلَ أتت رسالتكِ أخيرا،
عزيزي آدم..
عذراً منكَ على الانقطاعِ الطّويل، آتيةٌ في أوَّلِ رحلةٍ على العاصمةِ، وأرجو منكَ ألَّا تتغير صداقتُنا عندَ المجيء.
كتاباتي:
حواء.
قرأتُها مراراً وتكراراً، كانت بعضَ كلماتٍ ولكنها بألفِ ألفِ معنىً (صداقتنا لاتتغیَّر) هذه الكلماتُ تحوَّلَت لكوابیسَ عدةٍ لم تدعني أنم.
بانتظارِ قدومكِ.
السَّاعةُالسَّابعةُ والنِّصف مساءً،
على بابِ المحطةِ أنتظركِ، لقد تأخَّرتِ كثیراً، بدَت كلُّ ثانیةٍ وكأنَّها أیَّامٌ لا تمضي، وأخیراً صوتُ القطارِ قادمٌ، نبضاتُ القلبِ تتزایدُ، وقفَ القطارُ، لأرى ابتسامتكِ المعروفة، جمالَ وجهكِ، عینیكِ، خصلةَ شعركِ البنیَّة، في حضرةِ هذهِ المشاعرِ إشاراتُ التَّعجُّبِ والاستفهامِ لم تفارق مخيِّلتي، آخرُ رسالةٍ لكِ كم أودُّ معرفة مغزاها.
بدأتِ تلوِّحینَ بیدیكِ من بعیدٍ "آدم آدم"، ها أنا.. هنا ركضتُ إلیكِ، احتضنتكِ بینَ ذراعيَّ، لم أنسَ هذا الموقفَ بعد، آدم، كدتَ تخنقني، لیتني فعلتُ حینها.
بعدَ عدَّةِ أَّیام من قدومكِ زالَ التَّعبُ، الآنَ حانَ الوقتُ للانهیالِ علیكِ بالأسئلةِ والاستفساراتِ.
-حواء، لمَ تأخرتِ؟ لمَ لمْ تراسليني؟ ما خطبكِ؟ ماذا حدثَ لكِ؟ أخبریني بكلِّ وضوحٍ.
-سأحدِّثكَ بكلِّ شيءٍ.. ما رأیكَ بأنَّ نذهب في رحلةِ صیدٍ، لقد مرَّ زمنٌ على آخرِ رحلةِ صيدٍ.
ركبنا القاربَ واتَّجهنا إلى الأعماقِ، وفي سرحةٍ من السُّكوتِ إذا بصوتكِ الرَّنانِ یداهِمُ مسامِعي، لقد مرَّ وقتٌ طویلٌ على سماعِ هذا الصَّوتِ، صوتِ حنجرتكِ، بدأتُ أجدِّفُ بسرعةٍ مطارداً صوتكِ ومرافقاً نبراتكِ الصَّوتیَّة، حواء، كم أنتِ جمیلةٌ قبل الاعتراف، لماذا كلُّ النِّساءِ مثلكِ یقتلننا بقلبٍ باردٍ، لیتني لم أتعرَّف علیكِ أبداً، بدأتِ وقتها بالإجابةِ عن أسئلتي، وبدأتْ علاماتُ الخبْثِ لدیكِ تظهر، استغلَّیتِ حبِّي، استغلَّیتِ مشاعري الصَّادقة تجاهكِ، كنتِ أستاذةً نفسیَّةً بارعةً، لقد استعملتِ أسالیبكِ النَّفسیَّة والفلسفیَّة بي وكأنَّني فأرُ تجارب لا غیر، لیتَني لم أسألكِ أيَّ سؤالٍ، سحقاً لذلكَ الفضول الَّذي أظهر حقیقتكِ، كنتِ تجاوبینَ بأعصابٍ باردةٍ،
- آدم عذراً لحقیقةِ أجوبتي، عذراً لأسلوبي معكَ، عذراً.. لقد كانتْ علاقتي معكَ محضَ تجربةٍ لتقدیمِ رسالتي في الماجستیر، شكراً لكَ، لقد ساعدتني كثیراً، شكراً لجعلي أنال علامةَ الممتازِ.
آدم، أرجوكَ أن تتفهَّمَ، كانت رسالتي عن شخصٍ ذو فكرٍ ودینٍ، كانت الدِّراسةُ "هل من الممكن تغيیرُ أفكارِ شخصٍ كهذا بأسالیب نفسیَّة؟" لكن استعملتُ كلَّ الطُّرقِ النَّفسیَّة لقلب أفكاركَ المتدیَّنة والمؤمنةِ بوجود الله، لم استطع، لكن استطعتُ قلبكَ رأساً على عقب بالعاطفةِ، الحبُّ كقنبلةٍ موقوتةٍ بین یدیكَ إن أحسنتَ التَّصرُّفَ أطفأتها وإن لم تحسن قتلتكَ".

0 تعليقات