كانَ جالسا في ظلمة الليل يفكر، كيف له أن يزيلَ كل ذلك السواد من حوله…أدم، رجلٌ ثلاثيني. أبيضُ اللون، أسود الشعر، وسيمُ الوجه… واسعُ العيون وعريض المنكبين، مهيب الطلة، قوي الشكيمة ذو حكمة عظيمة، متفكر، هادئ … أذا غضب بركان ،وإذا عشق حيران… لا يملك من الدنيا إلا سبيله فيها وسعيه نحو ذاته فهو الذي يعرف ما يريد.
كان آدم يدرك صعوبة الموقف جيداً، فهو من رصف كل ما يملكه من مال في تلك الحقيبة الصغيرة ليدفعها ثمنا للحياة.. في تلك اللحظة اهتزت يداه وكأنه يسلم روحه. لم يكن حزنه على المال الذي يدفعه؛ فالمال يمكن أن يعوّض بالكد والعمل. لكن حزنه كانَ على فراق الأحبة. فما عاد له في هذه الأرض الشاسعة شبرٌ واحدٌ يرتكزُ على ترابه. فقد سلبته الحربُ كلَ سبل العيش الآدمي.
كان آدم على استعدادٍ ليضحي بروحٍ من أجل تراب وطنه الغالي… لكن سوداوية الحرب فاقت قدرات الجميع. صار الوطن كأنه مدينة أشباح، رائحة الدم تطغى على رائحة الحب في المدينة. ماعاد للزهورِ أرضٌ تنبتها ولا للطيورِ شجرٌ تؤويها. خاويةٌ كأنها صحراءُ قاحلة. لا تسمع فيها إلا صليلَ السيوف صيحات الثكالى بعد كل كرٍ أو فر..
فنهرُ الخرائدِ جُفَ بعدَ أن كانَ خداقاً ماؤه كأنه اللؤلؤ، ومن هنا جاءت التسمية. لكن جيش الهمج استنزفوا عَبَراتهِ وكأنهم لم يطعموا ماءً قط.. فعكروه بأقدامهم الداميةِ وأثوابهم الملطخةِ بالطين ودم المساكين.. هدموا مساكن أهل المدينةِ وطرحوها في مجرى النهر وألقوا بجثث القتلى على ناصة الطريق الداخل الى المدينة، صانعينَ بجثامينهم الهزيلة متاريس حربٍ تمنعُ عربات المنجنيق من الولوجِ الى الداخل علّها تحررُ ما تبقى من بشرِ البلدةَ المنكوبةَ من أيديهم القذرة.
جرير الرجل الذي ساعد آدم على الخروج من المدينة، فقد استغلَ طمع بعض الهمجيين المتخاذلين ودفعَ لهم المال لكي يغضوا الطرفَ عن السارب في عتمة الليل وراء عربةِ التقصي. وصلَ آدم وجرير للمدينةِ المجاورة علهم يجدون من يعينهم على تخليص وطنهم الحبيب من أيدي الهمج المتعطشين للدم. وقضوا أولى لياليهم في بيتِ عجوزٍ لا تبصرُ النور. تقوم على خدمتها ابنتها الوحيدة.
وبينما آدم جالس يحاول أن يجد حلولاً تعينه، وإذا بحواء تستأذنه للدخول، فقد أعدت العشاء للضيفين. كانت حواء بيضاء الوجه، طويلة الشعر بنية الخصلة غضة الطرف، خفيفة الظل. جميلة الصوت… إذا أقبلت أبهرت وإذا ادبرت أسهدت، عظيمة المشاعر
بهية المطالع، تمشي الهوينا. وتعيش في رغد وتدرك للحياة مشاربها وتعرف من العلوم الفلسفة والمنطق والكلام والدين والسير والنظم رغم قلةِ المعارف في مدينتها. فحواء من القلائل في المدينة ممن أصابه من علم الغابرين فاستنار وأتبعه بعلم القادمين فاستثار.
بعد أن تناول الضيفين طعام العشاء عادت حواء وأمها إليهما فقالت العجوز: سمعتُ من أهلِ المدينةِ من اللوم الكثير، لاستضافتي غريبينِ هاربينِ من بلاد الرياحين. فقيلَ هذان الرجلانِ لا يمكن ائتمانهما؛ تركا بلادهما تحت سطوة الطغاة الهمجيين وفروا تاركين النسوة والأطفال يواجهون الموت.. وقيل أن هذان الضيفان من الهمج مندسون؛ فكيف خرجوا من كل تلك الحصون! وقبلَ أنكما لصوصٌ مدعون.
حواء: نحنُ لم نعد وماً على إغلاق بابنا في وجه العابرين، وقد وصلتنا أنباء ما جرى في بلادكم ونحن نعي تماماً صعوبةَ حالكم. نجركُ أنكما لم تهربا فراراً وأنكم يوما ما تكونونَ كراراً. لكن نطمع أيها السادة أن تخبرونا بما دفعكم لقصدنا كي نكون لكم عوناً بعد الله.
جرير: نحنُ يا سيدتي خرجنا من مدينتنا بعد أن استنزفنا كل ما نملك. فلا عاد لنا بيتٌ يؤوينا ولا حربةٌ ندفع بها عن حياض أراضينا. أنا جرير، بلغتُ من العمرِ ما فاق الخمسين. زوجتي ذُبحت على يد الهمج بعد أن رفضت أن تكون لهم سبية حينَ كنتُ خارجاً قاصداً الصيد ليلةَ الهجوم، فلم أكن أدركُ أن صهيل الخيول ذاكَ ليلتها إنما هو جيشٌ من السفاحين. فقاومتْ وولدي الوحيد فقتلا من الهمج ما يقارب العشرين. لكن زوجتي كانت قد أثخنتها الجراح فسلمت الروح لربها، وأُسِرَولدي ليلتها. حاولت أن التقصي عن مكانه دونَ جدوى، فقد شيدوا قلاعاً حصينة، مما دفعني لأن أتحولَ من أبٍ لمحاربٍ علي أجد ولدي يوماً. لكن في كل يومٍ يزداد الهمج قوة وأزداد وحدة.. فقررت البحث عن مخرجٍ كي آتي بمن يساند مدينتي الحزينة.
آدم: أما أنا يا خالة، فقد هجمَ الهمجُ على دارنا ليلةَ زفاف أختي. فقتلوها وقتلوا زوجها ونصفَ الحاضرين، من بينهم أبواي وخطيبتي، وزوجة أخي.. فقررتُ أن أجعل من نفسي جندياً وأخوتي لردع المعتدين، لكن وقبل ليالٍ معدودة من ليلة الرحيل، هاجمَ الهمجُ مخبأنا ونحنُ في غفلةٍ فقتلَ أحد إخوتي وخطف الآخر.. لذا قررتُ جمعَ ما أملك من مالٍ لأغادر المدينة، فأعد العدة للعودة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في سجون العدو.
جرير: حال مدينتنا في تدهور.. لقد جف نهرنا ويبست أشجارنا وما عاد لعيلنا ما يأكلونه أو يشربونه إلا طعاماً كاسداً وشراباً عكراً.. كما أن الأمان انعدم والرا
حة صارت حلمَ الحالمين. لجأ الناس الى أطراف المدينة والى الخنادق القديمة.. انعدمت الحياة إلا من الهمج السفاحين.
ترقرقت دمعةٌ في عيني حواء الساحرتين وهي ترى الحزن والحسرة في عيون آدم وجرير. حين تنبه لها جرير فابتسمت على استحياء وأمسكت يد والدتها التي قالت بدورها: اليوم أنتم ضيوفنا وغداً سنبحث لكم عن عون.
غادرت حواء ووالدتها كي يستريح الضيفان..وفي الصباح عادت حواء تطرق باب الضيوف. ففتح آدم الباب ليجد أمامه حسناء ساحرةً وقد رسمت ابتسامةً فاتنةً على محياها فقالت: صباح الخير سيدي. أمي تبلغكم سلامها وتسألكما الخروج إلى الاجتماع في ساحة المدينة بعد ساعة من الآن.. أرجو أن تستمتعا بطعام الفطور ريثما يحين الموعد.
حان الموعد المنشود وتجمع سكان المدينة حول الساحة الكبيرة وبدأوا بنقاش وضع بلاد الرياحين.. فقد روت لهم والدة حواء حالهم كما أخبرها الضيفان وأظهر الجموع تخوفاً من التدخل في الأمر.
وقف كلٌ من آدم وجرير وحواء بجوار والدتها التي كانت تتعكز على عصاها الخشبية القديمة.
استأذن آدم للحديث فوقف على صخرةٍ صغيرةٍ وقال: يا أيها الناس، نحن في مدينة الرياحين فقدنا أهلنا ومدينتنا وكل ما هو جميل.. يعيش أغلبنا في ملاجئ تحت الأرضِ خوفاً من هجوم الهمج علينا. نحن لا نريد أن نورطكم في مشاكل مع أولائك المجرمين لكن علينا أن نخوض هذه الحرب… نريد منكم الدعم ولو بأقل القليل. أنا وجرير وحدنا لا يمكننا هزيمة جيشهم. وجنود مدينة الزنبق إمكانياتهم محدودة جداً ومجانيقهم لا يمكنها تخطي دروع العدو..
صعد جرير على صخرةٍ مماثلة وقال: يا قوم، أنا سأتجه اليوم الى مدينة الزنبق كي أساعدهم على وضع خطةٍ جديدة للهجوم. فقد رأينا نقاط الضعف في دروعهم من الداخل وعلينا أن نستغلها قبل أن يعيدوا تشكيل الدفاعات. أرجو منكم أن تكونوا عوناً لنا ولو بأقل القليل.. نحن اليوم في صدد الوقوف في وجه عددٍ من القتلةِ المتعطشين للدم، وإن لم تقفوا معنا فسيكون مصيرنا الموت..
نظر جرار في وجوه المجتمعين وهو يراهم خائفين.. هزَ رأسه بيأسٍ وربتَ على كتف رفيقه… واستأذنا العجوز لينطلقا الى وجهتهما الأخرى. وقفت حواء فوق الصخرة التي كانت تقل آدم وقالت بحزم: يا قوم، إن كنتم خائفين من الموت في حال وقفتم في وجه الهمجيين فاعلموا أن أولائك النهمين سنتقلون الى مدينتنا وكل المدن المحيطة بمجرد أن يثبتوا أنفسهم في مدينة الرياحين.
وكما تركتم سكانها يموتون بلا دعم فسنوت نحن كذلك بدلا دعم…
أمسكت العجوز بيد ابنتها وقالت صارخة: إن لم يكن في مدينتنا رجالٌ يا ابنتي فأنا سأذهب إليهم وأحارب معهم.
حواء: لكنك يا أمي لا تبصرين!
الأم: ستكون العزيمةُ بصري يا حواء.
……
وصل جرير وآدم الى مدينة الزنبق وقلب آدم معلقٌ حيث تلك الحسناء حواء. وقف الرجال في الساحةِ وقد تمكن سكان المدينة من جمع جيشٍ عظيم من عددٍ من المدن المجاورة. كانَ جيشاً جراراً.. جلسَ كلٌ من آدم وجرير مع القادةِ وعرضوا نقاط الضعف في دفاعات الهمجيين.
وحانت اللحطة الحاسمة.. حين قبضَ آدم بهدوء على يد رفيقه وقال: هل لي أن أحملك أمانة؟
جرير: بالطبع يا صديقي.. نحن اليوم روح وجسد.
آدم: إن نجوت.. أخبر حواء أنها نجمتي التي منحتني ااقوة لهذا اليوم.
ضحك جرير وقال: بني… ستخبرها أنت. لا تقلق.
هجم الجيش على المحتل الهمجي كما خطط تماماً وبدأت الكرات الملتهبةُ تحرق القلاع والجيش يتقدم في تحرير الأرض.. وقبل أن تزول كلُ القلاع، تزايد عدد الهمجيين وبدأوا يظهرون وكأنهم جراد منشر. فانحصرت القوات في المنتصف.
اكتشف القائد أنه قد أحيكت لهم مكيدةٌ للإيقاع بهم…
تدارك آدم ما حصل، فقد سمح له الهمج بالمغادرة ليسَ طمعاً بالمال بل طمعاً بالتمدد. شعرَ الجيش بالخيبة وبدأ ينهزم ويتراجع… وكانت النهاية المحتمة.
حينَ بدأ رجال الهمج يقعون واحداً تلو الآخر وأصوات السيوف وصهيل الخيول يهزُ أركان الأرض.. وإذا بمدينة العنبر قد حشدت جيوشاً من البلاد البعيدة جيوشاً لا يقهرها همجٌ ولا غيرهم وإذا بحواء على صهوة فرسها الشهباء تقاتل بضراوة المحارب المغوار.
حواء أنتِ نجمتي وأنتِ نشوتي وصهوتي واعتزازي… قالها وقلبه يخفق مابينَ الحبِ والفرح ونشوة الانتصار.
لبنى الروسان

0 تعليقات