-لأوّل مرّةٍ لا أشعر أني كائنٌ فضائيٌّ غريب!.
-كانت الدموع تنسابُ من عينيَّ تلقائيًا لحظةَ أن ألمحَ بها أحدُهم يرمُقني بتلك النظرة المستفزّة في أيّ مكانٍ عام، وإلى الآن لا زالت تستفزّني لولا أنّي أتجاهُلها بكلّ ما أوتيتُ من قدرة، ولو دفعني ذلك لأنْ أضحك لسببٍ ليس موجودًا، يكفيني فقط الفكاك من الشعور بالخجل والنقص.
قد يُقال بأنّ ما أفعله مجرّد ُخداعٍ لي "أنا" أولًا، أو سذاجةٍ أو حتى صبيانيّة!
أيًًّّا يكن، المهم أني أنجحُ كلّ مرّةٍ بتجنُّب أن ينقلبَ مزاجي، فأحظى بمتعتي الخاصّة الصّغيرة.
لكن ما حدث معي ذلك اليوم كان مختلفًا، لأولِ مرّةٍ أشعر بالفخر من نفسي، وبأنّ لي مكانةً رفيعةً كباقي البشر، لأول مرةٍ أنسى وجود تلك الصّخرة على ظهري والتي تمنحني مظهرًا غريبًا، وكما أقول دائمًا: لِأول مرةٍ لا أشعر أني كائنٌ فضائيٌّ غريب!
ولكن كلَّ ذلك الشّعور لم يأتِ بلا سبب واضحٍ وصريحٍ.
بعد أن أنهيتُ جولتي اللذيذة بين الكتب وارتوَتْ عينايَ بعناوين كتبٍ ورقيةٍ تُزين الرفوف، وتشبَّع قلبي أخيرًا من رؤيتها مستريحةً بدلال وبكامل أناقتِها وكبريائها، في الحقيقة كانت هذه المرة الأولى لي بزيارة مكتبة خاصّة بالكتب؛ لذا كانت مشاعري مُتخبّطة بين الفرحة والخيبة؛ لأنّ الوقت كان ضيّّقًًا للغاية!
لم أتمكن من تصفح كلّ ما كان على الواجهة الأولى لها، ولكني لم أخرجْ قبل أن أحمل معي ذكرى لذاك اليوم الجميل، الذي كان في حقيقةِ الأمر حلمًا جميلًا وتحقّقَ أخيرًا.
عندما ذهبتُ إلى الرجل الذي يقف أمام المكتبة ليشرح للزبائن أقسام المكتبة ويساعدهم على الحصول على ما يريدون، أخبرته بأني كاتبةٌ وأودّ أن تحتضن هذه المكتبة كتابَيَّ الاثنين بالإضافة إلى روايتي الجديدة.
كان يُصغي إليّ باهتمامٍ واضحٍ رغم ارتباكيَ الواضح، وتأرجُح الحروف على لساني، وصوتي الذي بدأ يخفت تدريجيًًّّا رغم محاولاتي على جعله ثابتًا، بصراحة اعتدتُّ ألاَّ أسألَ الغرباء، ولا أتحدّثَ معهم؛ بسبب غربتي التي حجبتني قلبًا وقالبًا عن كلّ شيءٍ في هذه الحياة.
عندما طرقَت جملة "أنا كاتبة" أذنيه أشرق وجهه فجأةً، وصار بلهجته المصرية يؤهِّلُ بي ويُسهِّل:
(أهلا وسهلا بيكي نورتينا وشرفتينا!)
وراح يشرح لي باهتمام أكبر عن تفاصيل ما يجب عليَّ فعله.
شكرتُه والسعادة تكاد تقفز من عينَي،َّ وابتسامتي العريضة لا تكاد تتوّقف، حمدتُ الله أنّي لم أنزع قناعي الوقائي عن وجهي حتى لا أشعر بالحرج، وغادرتُ مُحتضنةً بين يديَّ رواية "عيناك قدري"، تلك الذكرى الجميلة التي قررت اقتناءها من أجل ذاك اليوم المميز.
ولكن أثناء سيري بخطواتي المتوترة البطيئة عديمةَ الاتّزان، وأعين الناس الفضولية تحاول اختراق سعادتي، طرق ذهني سؤالٌ مُلِحٌّ:
"-ماذا لو عرف جميع من في المكتبة أني كاتبة؟!
ألن تُشرق وجوههم وتعتليها نظراتُ الفخرِ بدل نظرات الفضول والاستغراب، وربّما الشفقة؟
ألن يبادلوني أسئلتهم عن كتبي، ورُبّما يأخذون العناوين ليبحثوا عنهم هنا وهناك؛ رغبةً منهم في قراءتهم؟
ألن يخبروني أنهم سعداء برؤيتي هنا كما فعل المسؤول عن المشتريات؟
الفكرة هي: أنه ما السر في أنَّ مجرد كلمة فقط قبل اسمي "كاتبة" تستطيع قلب موازينِ كلّ شيء، كلمةٌ واحدةٌ تجعلُ منك كل شيء بعد أن كنت لا شيء؟
بنظري أهمية الانسان ومكانته لا تتعلق أبدا بمظهره أو عمله، ولكني إلى الآن لا أعلمُ لماذا يربطُ هؤلاء الناس ذلك بهذه الطريقة؟."
ظلّت هذه الفكرة تلوح بعقلي طيلة ذلك اليوم، هل كان عليَّ في كل مكان أتواجد فيه أن أُشهِر أمام الجميع كوني كاتبة حتى تكُفَّ نظراتِهم عن اختراقي؟
ولكني لا أفعل أبدًا، وبالأحرى لا أقول شيئًا إلا ما هو ضروريٌّ جدًًّّا طيلة مكوثي خارج المنزل، ولذلك عليَّ الاحتمال وممارسة المزيد من التجاهل والتبسُّم في وجوههم.

0 تعليقات