رؤى مبارك | معدل لقاءُ ألم





بعد أن يتوهَ رشدُ قلبك، وبعدَ أن تنعطبَ ذاكرتُك، وتتوهَ في حبٍ أضنى بفؤادِك التعبُ، تتجلّى مشاعرُ الشوقِ فيكَ مهيمنةً على كُلِّ خليةٍ وكُلِّ وريدٍ فيك، وكما قال أدهم شرقاوي: "معاركُ الحُبِ ليسَ فيها منتصرٌ ومهزوم، إما أن يتنصر الاثنان معاً، أو يُهزمانِ معاً". فبعد حبٍ دامَ لسنواتٍ، وفقدٍ أيضاً دامَ لسنواتٍ، تمَّ اللُقاء.
-حواء.
ها أنا هُنا، وقد حَالَ زمنُ فقدٍ بيننا، أراك في مُتسكعِ ذاكرتي، تَجوبُ أصقاع الخلايا والأوردةِ والشَّرايين.
لمحتُكَ يومَها، أدليتَ على فؤادي الصَّغيرِ بطلّةٍ ملكيةٍ، كنتَ تمتلِكُ من الجمال ما يستهوي أيُّ أحدٍ على وجهِ الأرض، تعبق الجمالَ الشَّرقيَّ بأَجَلِه.
أبيضَ الوجهِ كحباتِ ثلج سبتمبرية، أسودَ اللِحيةِ بعيونِ المها،
فقد جُمِعَتْ كُلُّ المحاسنِ فيكَ، طويلَ العودِ، عريضَ المنكبين.
يومَها لم أكن لأدريَ ما حصلَ معي، تبلَّدت ملامحي وأطرافي لفترةٍ، إلى حين أدركتُ أنها ملامِحُك ذاتها.
عادت ذاكرتِي فيك إلى ذاكَ اليوم، يوم انصهارِ قلبينا ببركانِ الألم.
-آدم.
لمحتُكِ من بعيد، لم أَتُهْ يوماً عن خُصلاتِ شعركِ البنية، لم أتُهْ عن جمالِ وجهك، وعن عَذْبِ صوتك.
كنتِ تجلسينَ على مقعدٍ ناصعِ البياض، وخلفُك شجرُ الياسمين، وللصراحةِ كدتُ أتوهُ بينَ قمرِ وجهِك وورد الياسمين
، كنتِ تجلسينَ وتدندنين، تدندنين وتغنين، تُغنين وتضحكين.
يا الله، أصوتُ ملاكٍ هذا؟! ودَدْتُ لو أقترب أكثر، لو أنّني تشبّعتُ من صوتكِ أكثر، لو أنّني حادثتكِ.
وبدأت ملامحي تتحدث عن التَّعب الذي أحملهُ داخلي كلَّ هذه السنين، وبدأت أتعبُ أكثر.
عندما رأيتُ زميلاتُك يقتربنَ منك وتسردينَ الأحاديث وتبتسمين
-مازلتِ كما كنت- تحبّين دوماً أن تبدئي أنت بسردِ قصصكِ، تسردينها بشكل عفويّ جميلٍ جداً. لم أعد أستطيعُ التَّحملَ أكثر!
لَم أتيتُ إلى هُنا، آهٍ كدتُ أن أنسى، ما هذه المصادفة يا الله؟!
أعاد هذا اللقاءُ إليهما بحوراً من الذكريات، وبدأت شلالاتُ الألمِ تدفقُ من أوعيةِ قلبيهما، وغَمرَهُما الحنينُ، الحنين إلى ماضٍ أتلفَ قلبَيهما وذاكرتيهما.
بعضُ القصَصِ لا يتكفلُ الزَّمَنُ بحملِها إلى عالمِ النّسيان.
كان مديرُ المركزِ الثَّقافي قد عزمَ على فكرةٍ تعرضُ أكبر قدرٍ من المواهبِ الشَّابة، ففكّر بأن يقيمَ معرضاً للرسمِ، وكان من حظِ آدم الذي لطَالَما حَلُمَ بأن تأتيَه هذه الفرصة لنشر لوحاته، لكنّ الاختلاف بالمعرضِ هذه المرّة كانت باستبدال صوت الموسيقا الهادئةِ المنبثقةِ من المسجلِ بحنجرةِ حواءَ التي في أصلِها معزوفةً في حيٍّ دمشقيٍّ قديمٍ، يفوحُ منه عبق الياسمين.
طرق آدمُ باب مدير المركز محاولاً تجاهل طرقات نابضِه التي كادت أن تكسّر أضلاعه التي تحويه من غصةِ الوصب.
أُذنَ له بالدخول. دخل آدم، وجلس وبدأ حديثًا صغيرًا غير مطولٍ بينه وبين مدير المركز الثقافي.
-متشوّق جدًا لرؤية لوحاتكَ يا آدم، آمل أنكَ استعددتَّ جيدًا.
-أجل، الحمدالله. عملتُ كلّ جهدي.
-إن شاء الله إذًا، لكن هناك سرٌّ حول اجتماعنا الآن.
-سرٌّ، ما هو؟
-ليس بسرٍّ، يمكنكَ أن تقولَ مفاجأةً أريدُ أن أطلعكَ عليها قبل استكمال تجهيزاتك.
وبينما هما غارقان بالحديث قُرع الباب.
-أظن أنها المفاجأة.
دخلت حواء.
دخلتُ ولمحتُكَ، كنتَ غارقاً بالحديث لم تنتبهْ لي بعد، شعرتُ بغصةِ الوصب، أحسستُ بحاجةٍ كبيرةٍ وقتها لأختبئَ في صدرِك، وأن تغمرني بين أضلعك، احتضنت كلّ تفاصيلك بعينيّ، حفظتُكَ تفصيلاً تفصيلاً في ذاكرتي، كنتَ خارق الحُسنِ، سرمديَّ الجمالِ، لم أشأ أن أنظرَ إليك أكثر؛ لئلّا يجتاحَ عبيرُ شوقك روحيَ أكثرَ من ذلك.
-التفتُّ واشتعلت في الفؤاد صبابةُ عشقٍ ووجدٍ وهياٍم. رأيتُكِ مرة أخرى،- نعم رأيتُكِ- بحثتُ في ثناياكِ عن بعض الدفء لكنكِ لن تأتيَ وتبللي صحراءَ قلبي، وبدأت أتعبّق ملامحكِ؛ لألملمَ ما في وفيكِ من سقمِ أرواحنا. تمنيّت أن يقف العالم حينها، لكن الواقع والحقيقة المُرّة ليست كذلك !
ألقيتِ التحيةَ بصوتٍ ناعمٍ اخترق قلبي، لكنكِ لم تلتفتِ إليَّ حينها، برودكِ هذا كاد أن يقتلني.
-هذه هي المفاجأة التي كنتُ أحادثك عنها، هذه هي حواء التي ستغني معك في المعرض، أي أنكما ستتشاركان المعرض سوياً، أنت تعرضُ لوحاتكَ، وأنتِ تسمعينا عذبَ صوتكِ.
أراكما لم تُسرّا بالخبر، أهناك مشكلة ؟
نظر إلى آدم نظرة استفهام ،تنهّد بقوة، وبالتفاتة أملٍ إلى حواء.
-أنا موافقٌ، ليس لديّ مشكلة.
توَجّهتِ الأنظارُ نحوَ حواء، وبصمتٍ طال لدقائقَ مع أنظارٍ نحوها مستفسرةً.
احمرّت وجنتاها، وتكوّرت عيناها، واغرورقَت بالدموع، لم تكن لتستطعَ أن تحتمل أكثر، وخرجت بسرعة.
بدت علاماتُ الدٌهشة على مدير المركز الثقافي.
-ما بها؟
-لا داعٍ، أنا أذهب وراءها.
-إذن تعرفان بعضكما؟
-نعم.
- لابأس إذاً.
خرجتُ من القاعة وأنا كُلّي خيبة ،كُلي سوء، وألومُ نفسي على فعلتها. كيف أوافق؟ كان يجبُ أن أنتظر ردّها هي، ما كان عليَّ الموافقةُ أولاً. أين أجدكِ الآن يا حواء؟ أين؟
خلف المبنى؟
نعم، إنك لاتُرين انكساركِ لأحدٍ، تنعزلين دوماً.
ركضَ قلبي قبلي ليراكِ ،ها أنتِ!
نَظَرَتْ إليه وسيولُ العبراتِ قد ملأَتْ وجنتيها، وبدأ يفرغُ كلَّ غضبه بها، فعندما يراها تبكي يغضب، وبدأ يلومها على بكائها وخروجها بتلك الطريقة، ومن كُلِّ شيء ،كُلّ شيء يدور حولهما.
كتم هذا اللَّوم كلَّه؛ ليخفيَ الوجد الذي بداخله. ِ
كانت تجلسُ وتضُمُ ركبتيها إلى صدرها.
-انتهيتَ؟ أنتهى لومكَ؟!
عند رؤياكَ جاءني فجأةً صوت أمواج البحر، أتذكر حينها عندما ذهبنا للشاطئ.
أتذكرُ أحاديثنا؟ نقاشاتنا؟
أتذكرُ عندما تجادلنا بحديثٍ مطولٍ عن مفهوم فلسفة الحب؟
وكيف يرى الفلاسفة الحب، وقولكَ لي ''أنتِ حبي وفلسفتي''
جلسنا يومها تحت عتمة الليل، والنجوم كأسرجةٍ معلقةٍ في السماء، كانت أمواج البحر تتلاطمُ بخفة، وتنعش ببرودتها أرواحنا، أشعلتَ لفافة تبغٍ وقدمتها نحوي، وقلت: "فلندخّنَ ولتكنْ هذه سيجارتنا الأولى" ،وبعدها تحدثنا، وضحكنا حتى ثملنا من الفرح.
والآن يا آدم نثمل من الألم.
مسحت عبرات وجنتيها، وقالت: بحثتُ في غيابك عمّن يكفُل قلبي بعد كسره منك، ولم أجدْ.
فلأودعه أمانةً عندك، ولتكن له خيرَ كفيلٍ
فدعنا نعزّي حنينَ أرواحنا مرة أخرى بألّا نلتقي..


رؤى مبارك



إرسال تعليق

0 تعليقات