في مدينةِ الأحلامِ الجميلة، بينَ المنازل الكبيرة، والجدران المنقوشة بحبِ وعناية، والعالية، بأبراجِ من النور، بينَ الأزقّة المكتظّة بالسكان، ومحطّات الازدحام، عند شاطئ البحرِ، وطائر النّورس، وبائع الكعك اللّطيف، حيث الأمواج وقوارب التّنزه الصغيرة، في عاصمة العالم اسطنبول، كما كانت تقول سماء هناك.. إلى مدينة
الأيّام هذه، انتقلَت سماء تحمل حقيبتها، الّتي رتّبت فيها سنين وأشهر من الجهد والكفاح، لتنالَ منحة دراسيّة مكلّلة بنصر العلم، الّتي حاربَت للحصول عليها، ولأجلِ هذا اليوم أفنت عمراً بين الخيام، تنسج مستقبلاً يسحبها من ظلامِ المخيّم الكئيب إلى العالم النقي الهادئ، انتظرت تحقيقُ حلمها بأصابع كتبت الكثير وعيون سهرت ليلاً، صعدت الحافلة واتّجهت.. وهي تردّد بينها وبين نفسها: "أنا قادمة يا اسطنبول".. قادمة لأحقّق أحلامي، وخطت خطوتها الأولى إلى المستقبل بكلّ ثقة وأمل يفترش قلبها المحارب.
بدأت حياتها في مدينةٍ غريبة عنها، بعيدة عن أهلها، قريبة لحلمها، ودخلتْ جامعتها، وعبت بوابة الجامعة الكبيرة، وهي تنظرُ حولها، "كم جميلة كم هي ضخمة"، تبدو أنّها أكبر من مخيّمنا، ومشت بخطوات متعبة من سفر طال ساعات إلى كليّة التربيّة، قسم الإرشاد النفسي، لتبدأ محاضرتها الأولى بنشاط وقوّة، السّاعة الثامنة إلّا دقائق، وصلت المدرّج الخاص بطلاب الإرشاد النفسيّ، واختارت المقعد الأوّل كعادتها، جلست، وأخرجت من حقيبتها دفتر وقلم، لتسجّل ملاحظات الدّكتور المحاضر، تنظر للطلّاب بعيون يملأها الحبّ والتفاؤل، وما إن انتهت من ترتيب أشيائها حتّى دخل دكتور المادة الأساسيّة لهذا الفرع، وخرج تاركاً في قلبها أثراً من جروح الكلمات.. (لاجئة)، وضحكات الطّلاب لم تغادر أذنها، بدأ كلّ شيء مختلفاً في ذاكرتها الّتي تسجّل شريط الحرب المستمرة، لم تفكّر هكذا.. كانت تظنّ أنَّه بعد الخروج من الخيمة، ستبدو الأيّام حلوة، ولكنّ يومها الأوّل بين سكّان هذه المدينة الحضاريّة كان صعباً جداً.
وبعد مرور منتصف النّهار، جاء وقت استراحة الغداء.. خرجت، وجلست على مقعد، بين كليّة التربية وكليّة الطبّ، بجانب مستشفى الجامعة، في ساحة مطلّة على بركة الماء، في زاوية مثلّثة مليئة بالورود الملونة، كانت هي الياسمينة الشاميّة البيضاء الوحيدة، بين تلك الأزهار العاديّة، في هذا الوقت خرج طبيب يرتدي رداءً أبيضاً، يبدو أنّه رجل ثلاثيني، ذو شخصيّة جذّابة وعميقة، أبيض اللّون، أسود الشعر، مهيب الطلّة، وسيم الوجه، واسع العيون، جمالُها كجمال شكله، عريض المنكبّين، قويّ الشكيمة، ذو حكمة عظيمة، متفكّر، هادئ، وقد ظهر ذلك من أسلوب خطواته، ورأسُه مرفوع، كأنّه يعانق الغيوم، ولكن إذا غضب.. بركان، وإذا عشق.. حيران، لا يملك من الدّنيا إلّا سبيله فيها.. يحبّ مهنته، كان يحمل كوب قهوة بيده، خارجا ًليستنشق الهواء المفعم بجوّ الطبيعة، واتّجه إلى تلك الحديقة، الّتي هي ملجأ طبيعي، بعيد عن الأرواح الأنانيّة، والأصوات المزعجة، والنفوس المتكبّرة، فهي مكانه المفضّل، يلجأ إليه كلّ يوم في استراحة الغداء، ليبتعد قليلاً عن المرضى وعن الساعات المتعبة، مشى غيث، وجلس على المقعد المقابل لسماء، كانت جلسة مختلفة رتّبها القدر، ونسجت نسائمها الغيوم، بين أنوار الشّمس وظلّ السّحاب، فقط سماء وغيث، غيث يرتشف القهوة، ويناظر الأجواء، ثمّ يميل بنظره إلى الأمام، ويرى فتاة بريئة، وعلى خدّيها حبات لؤلؤ من الدّمع الحزين، أثار في قلبه الفضول.. لِمَ فتاة جميلة ساحرة بين الورد تبكي، ما سرّ حالها يا ترى؟ وحيدة تعانق كتابها، وتشهق بضيق يتعب قلبها، كان ينظر إليها وكأنّه لأوّل مرةٍ يرى شابة صغيرة، ويتفحّصها بعينيه ويقول: بيضاء الوجه كملاك، طويلة الشّعر، بنيّة الخصلة، غضّة الطّرف، خفيفة الظلّ، حتّى في بكائها جميلة الصّوت، إذا أقبلت أبهرت.. وهي أمامي أبهرتني، وإذا أدبرت أسهدت، وليتها لا تدبر عنّي، عظيمة المشاعر، وبمشاعري أثّرتني، بهيّة المطالع، وليت المطالع كلّها أنت، تمشي الهويين، ومشيتها إلى قلبي، وتعيش في رغد أحلامها، وأحلامي هي، قال فيها نثراً ما قاله من قبل.. ثمّ صحي من بين أصوات قلبه، مخاطباً نفسه: غيث ماذا حصل لك؟! عد أدراجك أيّها البطل.. إنّها فتاة، ولكنّها ليست كأيّ فتاة، نظرة واحدة سرقت ثلاثين من عمري، ولكن لا يمكن أن أحتمل بكاءها، ولا يمكن أن أرى أحدا يبكي أمامي، وأبقى مكتوفاً هكذا، سأذهب لعلّي أمسح غبار الدّمع عن عينيها، وقف كبطل محارب تهتزّ الأرض لهيبته، وحمل كوبه
الأبيض وذهب إليها.
-مرحباً أنا غيث، هل يمكن أن أجلس هنا على طرف المقعد؟
سماء مرتبكة، تحاول مسح عيونها قبل أن تنظر لوجهه الجميل، أساه نعم.. من أنت ولماذا تريد الجلوس؟ كانت عيناها تغوص في بحر عينيه، غريقة، وكأنّها كانت تخبره: أنا لاجئة، لا تجلس بقربي، فهم نظرتها ومن دون أن تعلن الموافقة، جلس، ووضع قدماً فوق قدم وقال لها: يبدو أنك أجنبية ولست من هنا أليس كذلك؟ حبست دمعتها وأخبرته: أنا لاجئة، ولست من هنا، أنا من هناك، من أرض الشّام، حيث مات أبي، وتشرّدت عائلتي، نعم أنا غريبة وهنا لاجئة.. كلكم ترفضون وجودي، ذاك المحاضر، وزملائي، وها أنت، نظر إليها وكلّه فخر: أنا مثلك، أنا أيضاً لاجئ، ولكن صنعت من اسم اللّاجئ اسما مميزاً، وأصبح الجميع يعرفني باسم الطبيب غيث، وأنا الآن طبيب جراح في مستشفى الجامعة، ومدرّب لطلاب كلية الطب، جئت قبل سنوات من فلسطين كــلاجئ، أبحث عن يوم هادئ وعن حلم مشرق، عانيت الكثير لكوني غريب، ولكن لم أستسلم، ولم أقبل بهذا الاسم، فاخترت أن انسج اسما آخر، وها أنا نسجته ونجحت، ترتاح سماء بعد سماع كلمات غيث، وكأنّ طمأنينة العالم أُلقيت في قلبها، ثمّ تبتسم وتحكي له: هذا يعني أنّي لست الوحيدة هنا، وهناك من مرّ من معبر اللّجوء
-نعم يا ياسمينة الشام..
-أنا اسمي سماء ولست ياسمينة الشّام
-ولكنّك ياسمينة بين هذه الورود، خففي عنك وهوني، ولا تهتمي للكلمات القاسية الموجهة إليكِ، بل استخدميها كمصعد للنجاح، غداً سيعرفون سماء مختلفة، فقط ثقي بنفسك، واجتهدي أنت لها.
تركها غيث وذهب، بعد أن أغاث روحها بمطر من الحروف المشجّعة، وترك قلبه معلقاً عندها، ومضى إلى عمله، وبقي يومه كلّه مشغولاً في سماء، لم تغادر ذاكرته لحظة، ومضت سماء إلى كليّتها، كأنّها بنفس مشاعرها الّتي كانت تعيشها في اليوم الأول من الجامعة، رسمت ابتسامة، ودخلت إلى مقعدها الأوّل، وكان كلّ تركيزها في كلام غيث، من أين جاءني هذا الشاب! لقد أرسله الله لي، فهو محقّ، إن انتبهنا للمشكلة أكثر من انتباهنا إلى حلولها سنضيع ونفشل، المهم أن نتجاوز ما نمرّ به من صعاب، فالأيّام القادمة ستحكي ذلك، انتهى اليوم عند سماء بحلم جديد يرافق حلمها، وبأمل أجمل مما كان، بينما غيث يخرج من عمله، متجهاً إلى بيته بخطوات وتفكير عميق، يحاول قلبه أن يفوز اليوم على عقله السّليم، وهو يقاوم هذا الشعور الغريب، قاطع خياله خيالاً حقيقاً أمامه.. إنّها هي.. والله هي ومشوا معاً حتّى نهاية الطّريق وتفرقا، وفي اللّيل كلّ منهما يفكّر بالآخر، حتّى غلبهم النّوم وناموا.
وفي اليوم الآخر، كان كعادته يوما يعجّ بالتّعب، ولكن في داخله فاصل يجمع سماء وغيث في نفس المكان.. مكان هادئ، يجمع أجمل روحين في هذه الجامعة، سماء تترك فوضى كليّتها، وغيث يترك جوّ المستشفى، ليذهبا إلى حيث الورود والشجر والماء وخيوط الشّمس الخفيفة والظل المسلّي والهدوء، جلسا أمام بعضهما فترة دقائق، ثمّ تتقدم سماء إلى غيث
-هل يمكنني الجلوس في طرف هذا المقعد؟ قبل أن يقول.. جلست، وأخذت تضحك، ثمّ هدأت، واتّجهت إليه قائلة: فكّرت البارحة كثيراً بكلماتك الباردة، الّتي طبطبت على قلبي المتعب، وأردتُ أن أشكرك.. (شكراً)، ثمّ تركته، ورحلت تمشي بعيداً عنه، وتنظر سماء للسّماء، وتفتح كتابها لتقرأ مع خطواتها، وهو يراقبها.. انتهت ساعة اليوم، وذهب كلاهما.. غيث مع شعوره الغريب، ولكنّ سماء هذه المرة يرافق قلبها شعور جميل لم تعرفه، لا شيء، فقط ينتظران اليوم الآخر، لأجل هذه السّاعة، كان يشعر كلّ منهما براحة مع وجود الأخر، كانت سماء تنتظر انتهاء محاضرتها لتذهب، وغيث ينظر لساعته.. بقي خمس دقائق، ثمّ هذه المرة يحمل كوبين من القهوة، يصل، ولأوّل مرة يخاف ويرتبك.. يتقدم بهدوء
-هل تشربين القهوة؟ جلبت معي كوباً لكِ
-وبكل سرورٍ.. (شكراً جزيلاً أيّها الطبيب)
-لا تناديني بالطّبيب.. غيث أفضل
-أمرك دكتور غيث.. أقصد غيث.
وهنا سماء تخرج من حقيبتها قطعتين من الشكولاتة
-هل تأكل الشكولاتة معي؟
- طبعاً إنّها من النّوع الدّاكن الّذي أحبّه
-صحة وعافية.
في هذه الجلسة فتح قلباهما، وتحدّثا عن الكثير من الذّكريات، وكيف وصل كلّ واحد منهما إلى هنا، فهناك تشابه كبير بين حياة سماء وغيث
-غيث أريدُ أن أسألك عن شيء..
ثمّ عادت أدراجها.. لا شيء، السّاعة.. دقائق وتنتهي، وغيث يحاول أن يحكي لها، ولكنّه أيضاً عاد أدراجه، واكتفى بحديث قلبه، وانتهى اليوم، وانتهت أيّام على نفس حال لم تجمع بينهما سوى جلسات مختصرة، فقط العيون من كانت تتحدّث في تلك الجلسات، وحالتهم لم تتطوّر، سوى بإلقاء التّحية، والسّلام على بعضِهما، وبعض الأحاديث الصغيرة.
تجاوزت سماء الفصل الدّراسي الأوّل، وأنهت امتحاناتها بنجاح ودرجات عالية، وفي اليوم الأخير من
الامتحان، قبل عودتها إلى المخيّم في عطلة.. ذهبت في نفس الوقت إلى ذاك المكان، ولكن مضى نصف الوقت، ولم ترى غيث، بدأ القلق يسيطرُ عليها ويأكلها
-لماذا لم يأتي يا تُرى؟ هل حصل معه شيء؟ هل هو بخير؟
الكثير من التساؤلات تدور في رأسها، الّذي كاد أن ينفجر، عندها عرفت بأنّ ذاك الشّعور هو حب، وحالتها
الآن شوق واشتياق، أدارت ظهرها تجرّ حقيبتها لترحل، وإذ بصوت من خلفها: "سماء"، وقفت وإذا بالصّوت مرّة ثانية: "سماء".. نظرت خلفها، إنّه غيث، حاولت أن تسيطر على كبريائها قائلة: أنت هنا؟
-نعم أنا هنا، كنت في عمليّة جراحيّة، وطالت.. لهذا تأخرت
-ولكن عملك سيبدأ بعد دقائق لماذا قطعت مسافة وجئت لهنا
- لأنّي أريد.. لأنّي أريد أن أرى الورد والياسمين الّذي اعتدت على رؤيته كلّ يوم، وأنتِ لماذا جئت وبيدك حقيبة السفر.. إلى أين؟
- وأنا أيضاً اعتدت على هذا الوجود الجميل، جئت لأودّعه قبل ذهابي إلى المخيّم، فقد أنهيت امتحاناتي، وحجزت تذكرة إلى عائلتي، صحيح أردت إخبارك بشيء
- (غيث بلهفة) ماذا؟ أخبريني
- تبتسم هو شيء، ولكن بفضلك أنت وقد تفرح له
-أنا أفرح معك بكلّ الأشياء.. اقصد لم سأفرح فقط لهذا؟
-لأنّك وحدك من استطاع دخول روحي وانتشالها
- (غيث تغمر قلبه الفرحة) "ربما هي أيضاً تشعر بما أشعر ولعلها تخبرني وتهون الطريق عليَّ " أنا؟!
- نعم يا غيث أنت.. أنت من انتشل روحي ذاك اليوم، وأخبرني عن سرّ المقاومة، أتذكّر عندما كنت أبكي، جئتني، وبيدك كوب القهوة، وهمست لقلبي بكلمات لن أنساها ما حييت، أنا اليوم متفوّقة على جميع الطّلاب، وحصلت على أعلى درجات.. تخيَّل حتّى ذاك المحاضر الّذي قال لي ذات يوم لاجئة، ناداني بفخر أمام جميع الطّلاب، والجميع صفّق لي.. اليوم شعرت بلذّة النّجاح.. وشعرت بكلماتك الّتي حاربت معي.. ولا أعلم في داخلي شيء دفعني إليك، لأراك وأشكرك قبل رحيلي، ولكنّك تأخرت.. المهم أنّي رأيتك
- (غيث فرح بعض الشّيء وحزين بعض الشّيء، فهو يشعر بالفرح لفرح سماء لأنّها حقّقت ما تريد، وتخطت خطوة جيدة لإثبات وجودها، وحزين لأنّ شعوره خذله، ولكنّه هنّئها، وأثنى عليها وصفّق لها) أنت لا يصعب عليك شيء، وتملكين سحراً يذوّب الوجود، فما بالك ببعض الكتب والمحاضرات والقليل من الامتحانات.
أراد أن يحتضنها، أن يمسك يدها.. ولكنّ الوقت ليس فرصة للجميع، هي حافلتها ستنطلق بعد قليل، وهو قد بدأت ساعات عمله، لوّح كلّ واحد بيده ورحل، كلّ منها بعكس الآخر، والقلوب تتحدّث لبعضها، والعيون المغمضة ترسم لقاء سرمدياً، ينظر غيث، يجدها تجرّ حقيبتها وتمشي.. ما أجملك يا سماء، ليتك تنظرين خلفك، لأخبرك بما في قلبي.. انظري.. ولكنّها تمشي وتمشي، وتنظر سماء للخلف، لتجد غيث يضع كفّيه في جيب ردائه الأبيض، ويمشي بخطوات ثقيلة وفخورة إلى الطّريق المؤدّي إلى المستشفى، وهي تقول ليته ينظر خلفه، الكلّ يتمنّى من الآخر أن يبادر هو، والفرصة لا تنتظر أحد، صعدت سماء، واتّجهت رحلتها، وضعت رأسها على زجاج الحافلة، ولم تهدأ أفكارها عن النّزوح لغيث، وتقول "ليتني أخبرته"، ولكنّي لم أستطع يجب أن يبدأ هو.. لابا.. تركت الأفكار تأكل رأسها، وصحت على صوت السّائق "سننزل في استراحة
الآن"، وبقي القليل على الوصول، تخاطب نفسها: "وصول ماذا هل تخطّينا المسافة!!".. ساعات وساعات، وصلت المدينة الّتي فيها المخيّم، عبرت المنازل ووقفت أمام البوابة لتدخل إلى عالمها المظلم، تنتظر إذن الدّخول، ليفتح لها الشّرطي قائلاً "لقد مرّ وقت طويل على رحيلك، يجب أن تنتظري قليلاً.. لو تكرّمت أعطني هويتك"، ناولته هويتها، وبقيت تنتظر، ليعود إليها بعد دقائق "ولكنّ هذه الهويّة غير موجودة في نظام البطاقات"، مدّت يدها إلى حقيبتها، وأخرجت هويّة تبدو جديدة، وأعطته إياها من جديد.. نظر إليها قائلاً: هل أصبحت تركية؟
-لا، أنا سوريّة، وأبقى سورية، ولكنّي طالبة في جامعة اسطنبول، كرّمتني الحكومة بالجنسيّة التّركية، وهذه الهويّة القديمة إثبات أنّي لاجئة سورية، لو سمحت أنا متعبة من السّفر.. حبّذا لو تنهي عملك.
عاد إليها الشرطي، وأعطاها بطاقتها، وفتح الباب لها، ودخلت، وهو ينظر إليها كيف خرجت وكيف عادت تمشي، وترفع رأسها فخورة، الأيّام لا تدوم لأحد، والحال سيتغيّر حتما، ومشت سماء بين الخيام تنظر حولها.. الأطفال يلعبون، والنساء جالسات في أحاديثهنّ لم يتغير حالهنّ، وكأنّهم عالمٌ مختلف عن العالم الخارجي، الأرواح هنا أنقى وأطهر.. كلّما مرّت من جانب خيمة، يناديها صوت طفل أو صوت أم، الكلّ يعرف سماء الجميلة، وخاصّة الأطفال، الّذين كانت تشرف عليهم في اللّعب وفي حلقات الدّراسة، تستقبلها أمّها وأخوها على باب الخيمة، وقد طهت لها أنواع الطّعام المفضّلة عندها، والجيران جاؤوا يهنئونها، لتغفو باكراً، وتستيقظ فجراً على رؤيا جميلة، فيها غيث قادم إليها، وبيده وردة حمراء.
مضت أيّام العطلة بجلسات مع أهل المخيّم الطيبين، وكلّ يوم كانت تأتيها دعوة إمّا للغداء وإمّا للعشاء، انتهت أسابيع العطلة، وعلى باب المخيّم توّدع عائلتها وجيرانها، الّذين رافقوها حتّى البوابة، بدموع ودعوات لطيفة، حتّى الشرطي قائلاً: رافقتك السّلامة. خرجت بتفاؤل وفرح يسكن قلبها سأرى غيث.. نعم، أشتاق غيث، الرّحلة هذه المرّة كانت طويلة كثيرا، هكذا شعرت سماء، وكأنّها لأوّل مرّة تسافر هذه المسافة، وصلت ليلاً منهكة من التّعب، لتنام نوما عميقا، وتصحو فجراً، وهي مازالت متعبة، وعظامها مكّسرة، ولكن أبت إلاّ أن تذهب للجامعة، دخلت بوابة الجامعة في الصّباح الباكر، الجوّ ربيعيّ وجميل، والطّبيعة فيه أجمل وأجمل، قبل المحاضرة بدقائق، تدخل ليرحبّ بها الجميع، الشّبّان والشّابات.. حتّى الأساتذة الّذين دخلوا في كلّ محاضرة عقب الأخرى، يفرحون لوجودها، ويفتخرون بها كـطالبة عندهم، هذا الشّعور الجميل أحيا قلبا أهلكته حرب ولجوء، تنقضي ساعات الدّروس ليأتي موعد لقاء الرّوح، تحمل في يدها كوبين من القهوة، وقطعا من الشكولاتة، وتذهب لتضعها على مقعدها، الّذي حفرت عليه اسمها في بداية العام، وتنتظر وجه غيث، وما هي إلاّ لحظات ليطل غيث بهياً ملاكاً، طلَّ كقمر في متصف النّهار، طلَّ بردائه الأبيض كأنه هو الياسمين، اقترب منها قائلا: كنت أنتظرك.. كنت أفتقدك، ٣٠ يوماً أجلس هنا وحدي.
ناولته القهوة وقطعة الشكولاتة، وهي تضحك: ما بك؟ هل هكذا تستقبل العائدين من السّفر؟ كلّها ٣٠ يوماً.. ولماذا تفقدني بها! نحن أصدقاء أنت بخير وأنا بخير.
شعر بأنَّ سماء تبدو مختلفة هذه المرّة، وكلماتها تنزل عليه كالسّيف، رغم بساطة المعنى.. والذي أوجع قلبه الخاتم في إصبعها، ارتبك كثيراً، وبدت على وجهه علامات استفهام للعديد من التّساؤلات، ولونه بدا مخطوفاً، كأنّه يفقد جزءا منه، وهي تضحك بينها وبين نفسها، لقد أصابت سهمها، إنّها حواء، وما أدراك ما حواء، كان ينظر إليها ويحاول أن يحكي شيئا، ثمّ يعود إلى وضعيّته، وينسحب، حتّى رنَّ هاتفها، فابتسمت عندما ألقت بنظرها على الرّقم المتّصل، وقالت: أستميحك عذراً سأجيب على الهاتف، وآتي.. وأخذت تتحدّث بفرح وانسجام، بعيدة عنه قليلاً، وهو يراقبها بغيرة تعصر روحه وقرّر.. عندما جاءت قال لها: الخاتم جميلٌ في يدك، وكنت تبدين أجمل، وأنت تتحدّثين بالهاتف، يبدو أنّه شخص تحبيه
-نعم.. (وهي تنظر للخاتم في يدها) كيف عرفت ذلك؟
-وجهك يقول ذلك، سماء، أريد ان أخبرك بشيء مكتوم في قلبي، لم تسعفني اللّحظات والسّاعات أن أخبرك به.. أشعر براحة كبيرة معك، لا أعلم لماذا، وروحي كلّما غبت عنّي تفتقدك، وخاصّة هذه المدّة الطويلة، كنت آتي، وأجلس هنا، على مقعدك وأتخيّلك معي.. أنا.. أنا.. أنا أحبك
- (سماء بابتسامة نصر تتوسط خديها)
- لماذا تضحكين؟ هل هذا الخاتم يعني ارتباط هل أنت؟
-أنا ماذا؟
- هل أنت أصبحت لأحد؟
- وهل يهمك!! طالما كنت تحبّني لماذا لم تخبرني؟!
- لم أكن أستطيع، هذا الشّيء الوحيد الّذي أربكني في حياتي، لم أعرف الخوف يوماً يا سماء.. سوى الخوف من فقدك
- ولكنّك يا غيث تأخّرت.
- تأخّرت.. ماذا.. أخبريني يا سماء.. أنت مخطوبة الآن؟
- أوّلاً هذا خاتم عادي، لست مرتبطة بأحد، وثانياً هذا الخاتم كان وسيلةً لتحكي ما في قلبك، كنت أشعر بما تشعر به تماماً، ولكن أردت أن أسمع منك أولاً، ثمّ أخبرك لاحقاً، ليطمئنّ قلبي
- نلت مني إذاً، أخبريني هل اطمئنّ قلبك؟
- قليلاً.
- سماء أريحي قلبي وارحمي أفكاري.
-ربّما أحبّك أنا لا أعلم، لنذهب الآن، السّاعة الواحدة إلاّ دقائق، ستبدأ محاضرتي، إلى اللّقاء طبيب غيث.
تركته وذهبت، ثمّ ترك المكان، وذهب، وكلّ منهما ترك شعوراً جميلاً في قلب الآخر، ومضت أيّام وأيام، وأصبح الحبّ بينهما يكبر ويكبر، وقرّر التّقدم إليها لخطبتها، أسابيع ليطرق خبراً في أرجاء العالم بتعطيل الدّوام في كلّ مراحل التّعليم، من دون سابق إنذار، بسبب وباء اجتاح الأرض، تلقّت سماء الخبر بعد انتهاء الدّوام، لتحجز تذكرة بعد ساعات للرّحيل إلى مكان عائلتها من دون أن ترى غيث، وغيث يرن هاتفه.. إنّها سماء.. سماء بصوت مبحوح مخنوق وحزين
- غيث هل سمعت الخبر؟
-نعم يا ياسمينة قلبي، العالم ليس بخير، هناك فاجعة.
-أنا غداً مسافرة إلى المخيّم، هل لي أن أراك في المحطّة؟
- سماء ابقي هنا.
-لا يمكنني يا غيث، يجب أن أذهب، سأغلق السّماعة، وأرتّب حقيبتي.. أراك غداً، لا تتأخر.
قبل موعد الحافلة، غيث ينتظر في المحطّة، وسماء قادمة باتجاهه، تجرّ حقيبتها، وعيناه تفيض دمعاً، هي تخاف الوداع، وتخاف الفراق وتخاف من المجهول، طمأن قلبها، وأخبرها: سيكون كل شيء بخير، ستعود الحياة كما هي، فقط انتبهي لنفسك سآتي إليك، صعدت الحافلة، وجلست دقائق على النّافذة توّدّع غيثاً حتى غاب، ولم يعد أمامها، وبقي في مخيلتها.. تعود هذه المرّة إلى الخيام مسروقة الضّحكة، وتمضي الأيّام، حتّى تصلها مساءً رسالة.. لقد وصلتك رسالة يا سماء، أعلم كاتبها، طبيبي من أرسلها لي، ولكن لا أخفي شعوري، قد أربكتني هذه الكلمات، وشوّقتني لأعرف الحال الّتي كتب فيها.. "عندما اجتاح الوباء وجه الأرض، ووصل إلينا، يقاسمنا الوجع، ليحتلّ أحلامي، ويستعمر قلبي المغزول حباً.. كنت خائف جداً.. خائفٌ من الموت دون رؤية عينيكِ وهي تنام، خائفٌ من أن يسرق شغفي بكِ، ليخنقني وأنت بعيدة عن أصابعي، الّتي حلمت أن تكون سنداً لكتابك يوماً يا قارئتي الجميلة.. خائفٌ أن أُحجز تحت الأرض، من دون أن تعلمي عن حبي لك، وعشقي للحظات الّتي كنت تقرأين فيها كتابك المفضّل، واضعةً رأسك على زجاج الحافلة، كلّ يوم في طريق عودتك من الجامعة، مستخدمة سحر يديكِ الناعمتين، تعبيراً عن مشاهد القصّة، ثمّ تغمضي جفنيك، وكأنّك تعيشين داخل تلك الرّواية، وهذا الّذي جذب روحي إليك.. أنا خائف من أن أفقدك أكثر، من أن أفقد نفسي.. وأنا داخل غرفة الإنعاش، بين يديَّ مريض يختنق، وآخر يموت، وبعض أصدقائي انتشرت بينهم العدوى.. كان همّي في كلّ لحظة، في كل ثانية، ولا يراودني إلا شعور أن أراك قبل أيّ شيء، قبل عملي الّذي بتّ لا أخرج منه منذ أسابيع، قبل نومي الّذي لا يُنصف في حقي من هول التّفكير في فاجعة الحياة هذه، قبل أن أدخل حجري لأنقذ الأرواح، وأنا روحي مشتتة، وها أنا اليوم أخبرك، أنا مجهول في حبك، لا لغة ولا حروف تعبّر عنّي.. سامحيني، فقد وعدتك بيني وبين نفسي.. قد لا أعود يا سماء.
غيث.. أحبكِ
بقيت سماء مقيّدة بين سطور تلك الرّسالة، التي نزلت عليها وكتبت بعدها، سأردّ رسالتك يا كاتبي.. إليك منّي..
" قرأت حروفك المرنمة بين الشوق والألم، وسمعت نداءك المخفيّ بين حشد من الكلمات الّتي كتبت بصعوبة، وأحسست بقدرتك المتباطئة، وكأنّ الموت يعانق جبينك.. وشعرت بالخوف الّذي يغزو روحك خوفاً من الفقد.. وأمّا بعد يا فقيد عمري، قرأت في نصك.. ولم أفهم منه سوى الحبّ، فكلّ الّذي أردت إخبارك به، هو ألا تقلق.. اطمئن الآن، رسالتك وصلتني أنا دون أحد، تخطّت مشاعري، وذابت في ذاكرتي.. وماذا أخبرك أيضاً؟ هل أخبرك.. بأنّي كنت أشعر بخطواتك الثّقيلة خلفي كلّ يوم، بين شوارع حارتي الصّغيرة، الّتي كانت تكبر فيك يا طبيب الحياة؟ أم أخبرك بأنّي كنت أرى ملامح وجهك على زجاج الحافلة، في نهاية كلّ يوم نعود فيه من الجامعة؟ وهذا سرّ عشقي للنافذة.. أم هل أخبرك عن جلستنا اليوميّة في حديقة الجامعة، الّتي كانت لي ولك فقط؟ أم أقول الحقيقة بأنّي أنا من كان يسترق النّظر إليك، عندما كنت أقلّب صفحات كتابي؟ أم أحكي لك كم مرّة كتبتك في مذكرتي؟
أنا يا سيدي أحبّك، كن على خبر يا صاحب الرّداء الأبيض بأنّ اللّيل والّنهار أصبحا لك، الأرض اليوم تحتاج يدك الناعمة، واعلم بأنّ.. كلمة جميلة قد تطفئ نار الشّوق والخوف لديك، فخذ منّي.. أنت اليوم فخري.. كم أنا والعالم نفخر بك.. وكم هذه الأرض تدعو لك لتكون محارباً قوياً، هذا الوباء سينتهي وهذه المأساة ستختفي، سيبقى عبير صنعك وبسمتك بين تلك الجدران، ستأتي إليّ مبتسماً، لتخبرني أن قد مضى كلّ شيء يا سماء، الأحوال بخير.. وأنا بخير، أنت تحتاج قلباً.. وقلبي فداء لك، ستأتي، وستكون أجمل غيثاً رأته سماء"
وبقي الحال معلقاً في السّماء شهورا وشهور، والكثير من الأرواح تموت بسبب الوباء، والعالم كله يعجّ بالمصابين والمرضى، وغيث مقيد في المستشفى، وسماء فقط تدعو الله ليزول عن سماء العالم هذا السوء، تبدو الحرب هذه المرّة في كلّ العالم، ليس فقط في سوريا وفلسطين، جزء صغير من هول الموت الّذي خنق الشّام وفلسطين، يخنق العالم وكأنّها رسالة من الله إلى جميع الأرواح، لعلّهم يشعرون بقليل مما شعر به المهاجرون. كانت سماء تقول: العالم اليوم يعيش في مخيّم، كما نحن نعيش، ممنوع خروجهم للشارع كما نحن، وممنوع أيضاً التّنقل بين المدن من دون إذن كما حالنا، لا أعلم، المشاهد تعيد نفسها، ولكن لا أتمنى ما مرّ بنا أن يمر بغيرنا.
كانت رسائل النّاس الّتي تتحدث أنّه وضع عابر تعبر قلبي دون تأثير، فقط رسائل غيث الّتي تطمئن قلبي، أنتظر التفاؤل برنين حروفه وصدق كلماته.. مضت أسابيع، أي ما يعادل ٥٥ يوم على رسالة غيث، وفي اليوم التاسع والخمسين، يرنّ الهاتف، إنّه غيث، والله غيث، وردّت بشوق وحنين: يا أهلاً بطبيبي.. كيف حالك؟
-أنا بخير يا سماء، والعالم بخير كما قلتِ، وعمّا قريب سينتهي هذا الوباء، وستكون النّهاية جميلة جدا، الّسفر الآن أصبح مسموح سآتي لأخذك، وتبقين هنا معي بين قلبي وروحي.
وماهي إلّا أيام تزهر على الدّنيا خيراً بجلاء الوباء، وبفرحة سماء وغيث في حديقة الجامعة نفسها الّتي جمعتهم، ومضى الحلم حقيقة، السّماء والغيث جانبا بجانب، وتتخرج سماء، وهي تمسك يدي غيث، وأصبح العالم أكثر إشراقاً، ولأوّل مرة في تاريخ الكون والكواكب (الشّمس والقمر يلتقيان).
مدينة الأحلام

1 تعليقات
رااااائع جدا ^_^
ردحذف