- صحراءُ شبهِ الجزيرةِ في أحد العصور الجاهليَّة -
كان هناك رجلٌ يُدعى آدم، هو شخصٌ من أفضلِ النَّحاتينَ في سوقِ التَّماثيلِ، يملك شخصيةً قويَّةً، ذو جمالٍ مثيرٍ، وطلةٍ بهيةٍ، واجه مشاكلَ كثيرةً مع إناثِ القريةِ، فكونه محبوباً؛ جعله مرغوباً بشكلٍ مؤذٍ، ولكنَّه لم يكن يكترث لأيٍ منهنَّ.
في يومٍ من الأيَّامٍ قرَّر آدم وضع حدٍّ لهذه المشكلةِ، فصنع تمثالاً فائقَ الجمالِ وقالَ: "لو رُزقت إحداكنَّ بهذهِ الملامحِ سأتَّخذها زوجةٍ لي، وستكونُ الأولى والأخيرة، حتَّى لو كانت عبدةً سأدفعُ ثمنها وأعتِقها وأجعل منها سيدة"، هنا بدأتِ المشكلة، وقعَ آدم الَّذي لم يكترث لكلِّ إناث القريةِ بعشقِ التِّمثالِ الَّذي صنعه بيدهِ.
في يومٍ من الأيَّام عندما كان يتجوَّلُ في السُّوق، بالصُّدفةِ.. شاء له القدر بأن يلمح فتاةً تشبهُ ملامحَ تمثالهِ بشكلٍ مبهرٍ.. بل أجمل، كانت حسناءَ الوجهِ، وتضع قلادةً في منتصفِ جبينها، مثل سماءٍ جمَّلها قمرٌ بمنتصفِ ليلةٍ مُعتمةٍ، قام بمطاردتها في الطَّريق لكي يتأكَّدَ من صفاتِها، ومن شارعٍ إلى آخر، حتَّى دخلتِ الفتاةُ طريقاً مسدوداً، عندما انعطفَ خلفها لم يجدها، لم يجد إلَّا قطةً سوداءَ في زاويةِ الشَّارعِ ومنزلاً مهجوراً، فدخلَ آدم إلى المنزلِ وهو ينادي: "هل من أحدٍ هنا!؟" ما إذ وصلَ منتصفَ المنزلَ حتَّى سمع صوتاً من الخارج يصرخ: "أنقذْنِي"، خرجَ راكضاً، لكنَّه لم يرى إلَّا القطةَ، تَعجَّبَ من الصَّوتِ، ومن اختفاِء الفتاةِ، والمنزلِ الفارغِ، والقطةِ، وعندما عادَ إلى منزلهِ، ما فارقتْ صورتها بالهُ، حتَّى أنَّه عدَّلَ على التِّمثالِ، ونحتَ عليهِ القلادةَ، ولكن بنفسِ الوقتِ لم يغادر القلقُ والفضولُ رأسهُ، فقرَّر الذَّهابَ إلى المنزلِ بذاتِ اللَّيلةِ، لبسَ عباءَه، واصطحبَ مصباحهُ، وذهب.
وصلَ إلى المنزلِ، وبدأ يبحثُ عن شيءٍ يُطفئ قلقه، أثناءَ بحثهِ، زمعَ بوجودِ جثَّةٍ مستلقيةٍ على الأرضِ، أصيبَ بالرَّعشةِ والذُّهولِ، لم يستطيع التَّعرُّفَ عليها، ولم يرى دماً أبداً، لكن من آثارِ الأرضِ وجدَ بأنَّ الجثَّة قامت بالزَّحف من مكانٍ إلى آخر، وجد في يدها قطعةَ زجاجٍ صغيرةً مقطوعةً من كأسٍ بجانب الجثَّة، ومقصاً أصابه الصَّدأ، رعبٌ يغزو ملامحَ آدم، إشاراتُ تعجُّبٍ حول كلٍّ شيءٍ يراه، مازال لم يدرك ما الَّذي يحدث، أثناءَ متابعتهِ البحثَ مرَّ بجانبِ مرآةٍ، فاصطدمَ بالفتاةِ بداخلِ الإطار، التفتَ إلى الجهةِ المقابلةِ فإذ بالقطَّةٍ هي الَّتي أمامَ المرآةِ، صرختِ الفتاةُ من المرآةِ: "اهرب بحياتك"، مالم تكملِ الكلمةَ حتَّى اختفتْ، وظهرت بجانبه تقولُ لهُ: "أرجوكَ ساعدني"، يبتلعُ آدم ريقهُ بين كلِّ شهقةٍ وزفرة، العرقُ ملأ مسامَ جسمه، يضربُ على رأسه، يقرصُ جلدَه، يحاولُ أن يعرفَ هل هذا خيالٌ أم حقيقة!!
فقالت له: للأسف هذه حقيقة.
آدم: ماذا تريدينَ منِّي بحقِّ الآلهة؟
حوَّاء: أنا اسمي حوَّاء وأريدكَ أن تساعدني.
آدم: وبماذا شخصٌ مثلي يستطيعُ مساعدتكِ؟!
حوَّاء: أنا ملبوسةٌ بروحِ قطَّة، ساحرةٌ من أيَّامِ الفراعنةِ أرادتْ لقطَّتِها العيشَ طوال ماهي حيَّة، وبما أنَّ القطط لا تعيشُ بعمرِ البشرِ، استخدمتِ السَّاحرةُ تعويذةً تخوِّل القطَّة باختراقِ أيِّ جسدٍ، وتعيشُ عمرَهُ حتَّى يموت، فتنتقلُ إلى جسدٍ آخر، فالسَّاحرةُ كانت تقدِّسُ قطَّتها، وتعدُّها وسيطةً بينها وبين الآلهة.
آدم: وما الحل؟
حوَّاء: التِّرياقُ موجودٌ في منزلِ شخصٍ يُدعى سليم، في جنوبِ غربِ البلاد.
آدم: لماذا لا تذهبين وحدكِ؟!
حوَّاء: لا يصلحُ لمستقبِلِ السِّحر أن يقرأَ التَّعويذةَ على نفسهِ.
آدم(بتردد): أنا.. أنا جاهز، سأذهبُ لإحضارِ مستلزماتِ الطَّريق وآتي.
حوَّاء: بانتظاركَ..
عند خروجِ آدم من المنزل، لفتت ناظره برديَّة كانت على منضدةٍ مهترئةٍ، أخذها بيده دون أن يلفت أيَّ انتباهٍ وخرج، عندما نظرَ إلى المكتوبِ وجدَ مربعاً، عبارةً عن أربعةِ سطورٍ أفقيَّة، وخمسةٍ عاموديَّة، تماماً عشرونَ مربعاً، تحتوي على رموزٍ لم تكن مفهومةً أبداً، ولكن كونهِ قامَ بنحتِ عدَّةِ رموزٍ من قبل، تذكَّرَ بأَّنه ربَّما يملكُ كتاباً يستطيعُ ترجمةَ هذه الرُّموز، وبالفعلِ وجدَ التَّرجمةَ بكتابٍ اسمهُ "علمُ الآفاقِ والطَّلاسمِ" ، الرُّموزُ كانت عبارةً عن أرقامٍ تدلُّ على حروفٍ في اللٌّغة، كانت على النَّحوِ الآتي:
٢٢٢٣١٢٤. كلام
١٣١٠١٨٢٣. شرع
٢٥٥٢٣١. نجلا
٣١٨٢٥٢٨. تعني
٣٢٤٧١٢. تمخس
"كلام شرع لنجلا تعني تمخس"، لم يقتنع آدم بالكلماتِ ولم يفهم معناها حتَّى.
طولَ الطَّريقِ وآدم يفكِّر في معنى الكلامِ، يجرُّ حوَّاء على النَّاقةِ، ويدوِّرُ الكلماتِ بعقلهِ، ولكنَّه لم يصل لأيِّ نتيجة، وصلوا إلى منزلِ الرَّجلِ، ولكنَّ المفاجأةَ كانت بالنِّسبةِ لآدم بأنَّ المنزلَ أيضاً مهجور، عندما دخلَ إلى المنزلِ لفتَ انتباههُ بتشابهٍ كبيرٍ ما بين أساس المنزلينِ، ولكنَّه تأكَّدَ بأنَّ صاحبَ المنزلِ ذاتهُ صاحبُ ذاكَ المنزل؛ من وجودِ ختمٍ على أحدِ الأوراق، هو نفسُ الختمِ الَّذي في الورقةِ مع آدم، ما إذ دخلَ إلى الغرفةِ المجاورةِ حتَّى وجدَ إطاراً مزخرفاً بعرضِ الحائط، تتدلَّى منه حلقةٌ تختتمُ بقطعةٍ تشبهُ قطعَ النُّقود، ولكنَّ لونها أسود، منقوشٌ عليها لبوة، جاءت حوَّاءُ وبيدها كأسٌ وأفعى ميِّتة.
حوَّاء: شرطُ قراءتكَ للتَّعويذةِ يتطلَّبُ منكَ شربَ من هذا الكأسِ.
ثمَّ أشارت إلى وعاءٍ غريبٍ وقالت: بعدها ستسكبُ الماءَ بهذا الوعاءِ وترمي بهِ القطعةَ النَّقديَّة، سيتحوَّلُ إلى شبهِ معدنٍ أسود، عندما تقولُ أنتَ التَّعويذة ستحترقُ القطَّةُ، وأعود أنا كما كنت.
التزمَ آدم الصَّمتَ، وراحَ يفكِّرُ "لماذا تساعدني بهذه السُّهولة!؟ وأينَ هي القطَّةُ الَّتي تظهرُ دائماًّ؟!"، وهو يقتربُ منَ الوعاءِ الَّذي أشارت إليهِ، رأى رسوماً تقول: "ماءٌ والمعدنُ الأسودُ والحروفُ؛ ستنتج إنساناً برأسِ لبوة"، وعلى الطَّرفِ الآخر: "ماءٌ ومعدنٌ والحروف؛ ستنتجُ قطَّةً عديمةَ الجدوى"، استيقظَ آدم، وعلِمَ بأنَّ القطَّةَ هي الَّتي تتحدَّثُ بجسمِ حوَّاء الحقيقيَّة، وتريدُ منهُ أن يساعدها لتصبحَ أقوى، داهمت حوَّاء سلسلةَ الأفكارِ بقولها: عليكَ أن تشربَ أوَّلاً.
أصبحَ آدمُ أكثرَ حذراً بكلِّ خطوة، وهوَ ينظرُ إلى الكأسِ، تذكَّرَ الرَّجلَ الميِّتَ في المنزلِ القديمِ، كانَ بجانبهِ كأسٌ أيضاً، شكَّ بالأمرِ، بل أصبحَ شبهَ متأكدٍ بأنَّها تريدهُ أن يساعدها لغرضٍ خبيث، مثَّلَ آدمُ بأنَّه أصيبَ بدوار، وقد أُغميَ عليه بذات اللَّحظة، وراحَ يفكِّرُ بصوتِ العقلِ.
آدم: هل زحف الرَّجلُ إلى الكأسِ لكي يخبرني بأن لا أشرب، ولكن لماذا كانت بيدهِ قطعةُ الزُّجاج؟!، لحظةٌ واحدة.. قطعةُ الفضة الَّتي قمتُ بتعديلها على التِّمثال، هل كانَ يشيرُ بأنَّها قطعةُ الإنقاذ؟!، والحروفُ المعنيَّةُ على الوعاءِ هي ذات الحروفِ الَّتي بالورقةِ معي، ولكن ما الَّذي كانَ مقصوداً بالمقص؟!، ركِّز يا آدم قليلاً، ما الَّذي يمكنني فهمهُ من معدن.. معدنٍ بالفعل، لربَّما كانَ يشيرُ إلى المعدنِ بعد إضافةِ القطعةِ إلى الماء!!، فتحَ آدمُ عينه ليجدَ حوَّاء تحاولُ أن تسقيهِ من الكأسِ فأبعدهُ عنهُ بتريُّث، ووقفَ وهو يسكبُ الماءَ بالوعاء.
تقول حوَّاء: لن تستطيع إلقاء التَّعويذة دون الشُّرب.
آدم: أعطني الكأس.
ما إن اقتربت حوَّاء منهُ حتَّى نزعَ من على رأسِها القلادة، ورماها بالماءِ، وقالَ التَّعويذة الَّتي معه "كلام شرع لنجلا تعني تمسخ"، لكنَّ المفاجأةَ كانت بأنَّه لم يحصل شيء، غضبت حوَّاء؛ فسكبت على وجههِ الكأسَ، وبدأت تصوي، كان صوياً يأكلُ خلايا العقل.
آدم (يضعُ يديهِ على أذنيهِ ويصرخُ بأعلى صوت): توقَّفي.
مشهدُ قطٍّ أسودَ يراودُ عقلهُ، وهو يزداد ألماً، يفكِّر ما الخطأ؟!، حتَّى تذكَّر شيئاً.. (المرآة)، حوَّاء الَّتي كانت في المرآة، كانت تريدني أن أهرب، ولكنَّ حوَّاء الَّتي بالخارج كانت تريد منِّي مساعدتها، المرآةُ عاكسةٌ للشَّرِّ، فلو وُضعت الكلماتُ الَّتي في الطلاسمِ لأصبحت (مالك لعرش الجن ينعت سخمت)، بالكتاب كان مذكوراً بأنَّ لكلِّ جنٍّ إلهٌ أعلى، يحرقهُ تماماً، إلهُ هذهِ القطَّةِ يدعى(سخمت)، استجمعَ آدم قواهُ بصعوبة، وأعادَ إلقاءَ القطعةِ بالماء، وبثقةِ الرِّجالِ، بصوتٍ هزَّ أركانَ المنزلِ قال آدم: "مالك لعرش الجن ينعت سخمت ".
تحوَّلَ الماءُ لزئبقٍ لامع، وخرجَ من حوَّاء ظلالٌ سوداء، اختلطَ الزِّئبقُ بالسَّواد حَّتى أذابه بشكلٍ كلِّيٍّ، واحترقت روحُ القطَّة، وعادت حوَّاء إنساناً طبيعياً، ولكنَّ آدم قد أصيبَ وجههُ بتشوُّهٍ جزئيٍّ.
بلال قطان

0 تعليقات