مرام خليف| في المشفى الغرفة 28



فتحتُ عينيَّ ببطءٍ؛ لأرى نفسي مستلقيةً على سريرٍ أبيضَ، ويدايَ متصلةٌ بسيروم مغذٍّ معلَّقٍ على إحدى جوانب السرير. جوّلتُ نظري في الغرفة فوجدتُّ آدم جالسًا على الأريكة المقابلة لسريري، مغمضَ العينين مرهقًا، حاولتُ الجلوس، فأحسَّ بحركتي وأسرع إليّ :
-حواء، هل أنت بخير؟ لمَ تفعلين هذا بنا؟.
أشحتُ وجهي عنه، وعدتُّ أسترجع يوم الأربعاء الماضي، عندما ذهبنا لمراجعة الطّبيبة النّسائية، مازالت كلماتُها ترِنُّ في أُذنيّ عندما قالت:" أعتذر إليكِ سيّدة حوّاء، لكنّ مشكلة الإنجاب منكِ للأسف، لا من السيّد آدم"، ألا تعلم هذه أنّها طعنت القلب بمدية حادّة؟، ألا تعلم أنّ الألم حارقٌ سواءً أكان العقم منّي أم من آدم؟!
آدم الّذي نظرتُ إلى عينيه أنتظر منه كلمةً تسندني وتطيّب قلبي، لكنّه كان غارقاً في صمتٍ تامٍّ، وأمارات الصّدمة تأكل عينيه.
خرجنا من العيادة وكلانا غارقٌ بصمته، وصلنا المنزل ودخلتُ غرفتي، وأجهشت بالبكاء، ولن أنسى موقف آدم القاسي حينها، فقد دخل إليّ ووضع الطّعام على المائدة، وكأنّ أحدًا ليس في الغرفة، تقطّع قلبي، وأحسست شيئًا ما يخنقني، بقيتُ على هذه الحال أيّامًا، لم أرَ آدم هذه الأيّام، لم أرَ سوى طعامًا وماءً على الطّاولة كلّ صباح، أشرب الماء، وترفض معدتي الطّعام.
إنّي أعلم حجم تعلّق آدمَ بالأطفال، وأعلم كم كان ينتظر طفلًا يحمله بين يديه، يأخذه معه أينما ذهب، ويلاعبه، ولكن ماذا أصنع؟ ما باليد حيلة، فالطّبيبة أكّدت أنّه لا أمل منّي، عدتُّ بذاكرتي إلى الماضي، يا ترى هل سينسى آدم وقفتي جانبه عندما أصابته جلطةٌ دماغيّة أثّرت على حركة قدمه اليمنى؟
هل سينسى سهري، وتعبي، وذهابي معه إلى الطّبيب؟
هل سينسى تشجيعي له على المشي؟ هل سينسى فرحي وبكائي حين عاد لحركته شبه الطبّيعية؟، هل سينسى كلّ هذا ويتركني؟!
ومن شدّة أفكاري أغميَ علي ، واستيقظت على سرير ليس بسريري، وغرفةٍ ليست بغرفتي.
-آدم:
فكّرت طيلة الأيّام السّابقة، وأعطيتُ نفسي مهلةً؛ لأتّخذ قرارًا يصبّ في مصلحةِ كلينا، لم أشأ حينها أن أرى حوّاء، لذلك تركتها حبيسةَ غرفتها أدخل عليها وهي نائمةٌ، أضع لها الطّعام الّذي لم تذقْه وأطمَئنُّ عليها من بعيد، ولكنّ ذاك اليوم كان مختلفًا، وكانت حوّاء مختلفةً في نومها أيضًا، كان وجهها شديدَ السّخونة، ويداها شديدتا البرودة، وأنفاسها تصعد مثل طائرٍ هرب من الصّياد للتو، -لم أفكّر- حملتها إلى المشفى مسرعًا، وبقيتُ بجانبها إلى أن استيقظت، طمأننا الطّبيب على وضعها، وأنّها حالةٌ نفسيّة، ومرّت على خير.
عدنا إلى المنزل ورأسيَ يكاد ينفجر، أردت أن أؤجل كلامَنا للصّباح، إلى أنّها أرادت أن نتكلّم الآن، بحتُ لها عمّا في قلبي، وبيّنتُ لها أنّ الزّواج من حقّي، ولا سيّما أنّه لسبب.
جُنّت حوّاء، وبدأت بالصّراخ، هل نسيتَ يا آدم وقوفي جانبك؟ هل نسيت تعبي وحزني؟ هل نسيت كلّ هذا؟
-لم أنسَ، ورددته لكِ اليوم، فقد حملتكِ إلى المشفى، وبقيت إلى جانبك، إلى أن استعدتِ عافيتك.
تركتُ حوّاء في صدمتها ولم أشأ أن أكمل حديثي معها، كنت أعلم أنّها ستندهش، لكن ليس إلى هذا الحدّ، ظننتها ستفكّر بي وبمستقبلي وباسم عائلتي، لكنّها خيّبت ظنّي.
-حوّاء:
والله لقد دُهشت وتمنّيت الموت حينما أرسل آدم كلماته كالصّاعقة على رأسي، ماذا حصل؟ ماذا فعلتْ؟ ألستُ بشرًا أنا أيضًا وأرغب بكلمة ماما؟.
لقد صعقني، ونسيني، ونسي كلّ ما فعلته لأجله حتّى إنّه لم يفكّر إذا كان من الممكن علاجي أو لا، لم يفكّر إلّا بنفسه، وباسم عائلته.
لقد مات آدم الّذي أعرفه، مات آدم المحبّ وماتت كلمات رائد رئيس المجلة التي نعملُ بها: "" تحابوا فإنّ الحبّ رُقية ضد الألم "" أيّ حبٍّ هذا وأيّ آدم هذا؟!
لن أنساها لك يا آدم، ولن أنسى خيباتِ أملي معك.
مات آدم من قلبي، وجفّت مياه الودّ بيننا، وإلى الله أشكو أمري. مرّت عليّ أيام لم أستطع مغادرة السرير، اعتذر إليّ آدم مرات عدّة، ولكن ما فائدة الاعتذار من شيء مكسور ؟
أعرف انّه لن يتخلّى عن فكرته تلك أبداً، ياالله إنّه بداخلي بشكل حزين، أيامٌ عدّة كنت أبكي فيها؛ كي أقسو عليه، لكني لا أستطيع التفريط به، أريدُ أن أنقذ نفسي وكرامتي منه، لكن دون جدوى!
يا إلهي أأحمل كل هذا الحبّ مكرهةً؟!

يجلسُ آدم على مكتبه وهو غارقٌ في أفكاره.
(أرى حواء تنطفئ أمامي وأنا عاجزٌ حتى عن التربيتِ على كتفها، اعتذرتُ إليها وتوسلتُها أن تسامحني وأن نعود كما كنّا، لكنّها لم تردَّ أبداً، باتت أيامنا رماديّة جداً، والله يعلم كم أبغض هذا اللون، وحتى حواء تعرف هذا، لن أستطيع التخلّي عنها أو تركها، لكني لا أوّد أن نعيش وحدنا، بل أُ ريدُ أن تُملى قلوبنا بضحكات الأطفال . أوه ياإلهي ما هذه الحيرة التي أنا فيها؟، أكادُ أُجنْ، سأُنهي الأمرَ حالاً لا أريدها أن تبقى على هذه الحال، أريد أن أراها بخير ).
حسمَ أمره و ذهب لشراء الورد الأصفر، لون حواء المفضّل علّها تفرح كما كانت تطير فرحاً عندما تراه يقدّم لها باقة الورد الأصفر، وتحضنه قائلةً : أيحمل الوردُ ورداً ؟!
دخل إلى منزله الذي صار هادئاً أكثر من اللازم في الأونة الأخيرة، دخل إلى المطبخ فلم يجدها، وذهب إلى غرفة النوم كانت فارغة أيضاً، بحث في أرجاء المنزل ولكنّه كان خاوياً تماماً جلس على مائدة الطعام مذهولاً : "أين يمكن أن تكون ؟".
وقع نظره على ورقةٍ متروكةٍ على الطاولة أمسكها وبدأ يقرأ :
"أعرفُ أنّك لم ولن تتجاوز الأمر، وأعرف أنني لن أستطيع تحمل فكرة المشاركة بشيءٍ يخصني، أعرف أنك تحادث سارة زميلتك السابقة التي تعرفت عليها من قبل تعارفنا، وأنا على يقين أن مشروع زواجكما القائم سيكون ناجحاً.
أنا تركتُ المنزل يا آدم ولن اعود ثانيةً، أرجو أن ترسل َ لي ورقة طلاقي إلى منزلي الجديد، سأرسل لك عنوانه بعد عدّة أيام ،تتسائل لمَ؟
سأُجيبكَ، لقد خفتُ أن نعود قريبين د، خفتُ أن أشعر بالأمان الزائف معك بعد أن سلبت الحقيقي مني بكلماتك واعترافك، خفتُ أن أنسى آلامي وأحزاني، وأن أكونَ أنانيةً على حسابك، سوف أكرهك بمجرد أن نعود كما كنّا، بمجرد أن أقول لك أنك كنت تستطيع فعل هذا التنازل منذ البداية، ولكنك تركتَني وحيدة أفضل من أن الوم نفسي وألعنها مئة مرة وألّا أشعر بأنني كرهتك تماماً وألّا أستطيع مسامحتك.
اطمئن الآن، لقد حظيتَ بحبّ حواء، وكانت نقطة ضعفها هي قلبها، فهنيئاً لك، وحظٌّ أوفر لي .
حضّرتُ لك حلوى اللوتس، أعرف أنك مغرمٌ بها، دعها تكون الذكرى الأخيرة الجميلة بيننا، وأتمنى من الله أن يرزقك ب زياد يا حبيبي.
أعتذر لي من سارة لمناداتك يا حبيبي، لكنها حقيقة قديمة، والآن الوداع.
-آدم:
مصدومٌ جداً من كلماتها ومن مفاجأتها الكبيرة هذه، كان يعتقد أنها ستعود بعد مدة قليلة كما كانت في السابق، رأى الرضا بعينيها كيف استطاعت تركه؟!.
صرخ باكياً : آهٍ منك يا حواء.
ربما كانت آخر دمعاتِه مودعةً حبّ حواء.


مرام خليف


إرسال تعليق

0 تعليقات