"يحدث أحياناً في صباحٍ شتويّ عَبوس أن يتسكعَ آدم قرابةَ نهر ميلياتسكا، يجالس صديقاً أو يجلس بمفردِه متأملاً الماء المترقرق في المجرى، ويتفكّر في قضية جوديّةٍ أحياناً، وإنسانيّةٍ أحياناً أخرى، تؤرقُه قضيةَ الحرب، وعلاقتها بمدينته "سراييفو"، وبدولته البوسنة والهرسك.
يتجوّل في الماضي السحيق، ويَنوخُ عند لحظة اغتيال "الأرشدوق فرانز فرانديناند" في شوارع هذه المدينة الموغلة بالدم.
لاحظ أنّ اليوم يحاول أن يكون امتداداً للماضي، فبعد إعلان استقلال البوسنة عن المملكة اليوغسلافية، وأصبحت مركزاً لمسلمي البوشناق المنتمي إليهم، لم يرق للصرب ذلك، وأعلنوا الحرب عليهم، فارتفع عويلُ أبواق الحرب منذرةً عن كارثة إنسانيّة قادمة.
ترك مكانه عائداً إلى منزله، مرّ في طريقه إلى سوق المدينة، تلّمس به طالِعَ الحرب والأيام القادمة، فقد كان فارغاً إلّا من القليل، وهادئاً إلّا من شَفيفِ صوتٍ ينبعث من السيّارات والمُتَرجِلة. وصل منزلَه الواقع في عرش البناية، فتح الباب، فقفزت إليه زوجته حواء حالما سمعت طرطقةَ المفاتيح. رحّبت به وأخذَت عنْه سترته، وعلّقتها خلفَ الباب، ثمّ دَلفتِ المطبخ تحضّر الغداء.
جلس عل أريكةٍ في الصٍالة ورفع قدمَيه إلى الطاولة قبالته، رأى صورة كتاب ملقى على الأريكة المجانبة له، أخذ يرمق غلافه بنظراتٍ متعجبةٍ، "الحرب والسلم لـ ليو تولستوي"، بدا له أنّ الصدف تختارُ تفاصيلَ الأشخاص بدِقة.
ما إن تُشرِع في التفكير بشيء يتجاوب لك المحيط؛ ليضع لك أحداثًا مشابهةً لما تفكر به. فَتح الكتاب وشرع يقرأ منه.
" كيفَ تتحسنُ صحةُ المرء وهو معذّب النفس؟ هل يستطيع الإنسانُ في هذه الأيام أن يحتفظَ بهدوئِه وطمأنينته إذا كان ذا قلب؟ "" قرأها وهو ينبشُ الأفكار في عقله.
-آدم: حواء، أحتاج مساعدتكِ في فهم نقطة ما، بقيتْ عاصيًّةً عليّ.
-حواء: بكلّ تأكيدٍ عزيزي.
غسلت يدَيها وتوجهت للصالة. جلستْ قبالته وهي تزيّن ثغرها بابتسامة خفيفة.
-آدم: هل يستطيع الإنسان أن يتماهى مع الحرب؟ هذا إن قَبِل وجودها أولاً؟
-حواء: لا أرى أن أيّ إنسانٍ يقبل الحرب؛ لأنّ الحروب تُفرَض ولا مجال لنقاشها. من يصنع الحرب؟، من يقودها؟، لماذا صُنعت؟، ما غاية المتناحرين منها؟، جميعها أسباب غالباً تظلّ مجهولةً، وغالباً تكون مادية. أمّا إن كان الإنسان يتماهى مع الحرب، فأرى أنّه يتماهى معها لدرجةٍ تشعر وكأنه كائنٌ صُنع خصيصاً ليتماشى مع حياة الحروب.
-آدم: أظنّ ذلك أيضاً، لكنه يفقدُ كثيراً حتى يتهيّأ لها، كأنْ يفقد إحساسَه وشعوره، حتى يتقبّل الدم والأشلاء بدمٍ بارد.
-حواء: لا أعتقد ذلك، فالإنسان الناشئ في أجواء الحرب يصبح أكثر عاطفةً وإنسانية، ربما تتجلى له قدسية الإنسان حينها، لكن ربما يصاب بنوع من اللامبالاة الحادّة.
-آدم : هل سنتمكّن نحن من التماهي مع الحرب القادمة؟.
نظرت عبر النافذة تتمعّن في التفكير بسؤاله. كان الثلج بدأ في السقوط، حباٌت صغيرة تتمايل بخفة حتى وصولها للأرض.
- حواء: بالطبع، تماماً كالثلج. في البدء سنعاني حتى نستطيع التكتّل محدثين قوةً ماصّة لباقي المآسي، وتذاب فينا كأنّها لم تكن، أو أنها تُصبح حافزاً لنصيرِ أقوى.
ثم عادت تنظر للثلج مجدداً، وأكملت:
- حواء: دعكَ من الحرب وهواجسِها، ما دمنا سويةً لن يمنعنا شيء من الحياة، إننا نقوى ببعضنا، وهذه هي القوة الوحيدة التي لا تسمح لشيءٍ أن يخترقها.
-آدم: وأنا أخاف من تلك النقطة بالتحديد!، ماذا لو فقدتكِ أو فقدتُّ نفسي وتهتُ عنكِ؟، كيف لي أن أنعمُ في الموت؟، أشعر أنّ الحرب هي خطيئة كل شخصٍ فينا، وعليه أنْ يفقد شيئًا ثمينًا على قلبه؛ ليَنظُفَ من جنيحته.
وقفت واستدارتْ حول المقعد الجالس عليه، سلّت يديّها من تحت إبطيه وعانقته من الخلف، كالشجرةِ التي تعانق ظلها الهارب من رمض الشمس، ثمّ تركت قبلة أسفل شحمة أذنه. رفعت فمها إلى قبالة أذنه، وقالت بصوتٍ خفيض:" إن حصل ذلك وكان محتوماً علينا، فسأكون وروحي بجانبك، وستستمرّ أنت في الحياة لأجلي"، ثم تركته وغادرت الصالة إلى المطبخ، ومقلتَاها تغشّيها الدموع، وهي تقول في سرّها: "ماذا لو فقدته أنا؟".
-٢-
تراكضت الأيام خلف بعضها، كأطفالٍ تلهو في الأزقة، وسرعان ما تحول اللهو إلى عراك، ثمّ اشتد، فأصبح دامياً، كل طفلٍ أو كل يومٍ يثبت أنّه الأشدّ قوة وعنفاً.
جلس العالمُ يشاهد عوائل مسلمي البوشناق تُصلَبُ في ساحات المدن والقرى، وينظرون إلى رؤوسهم المُنَتزَعَة وهم يطرقون كاساتِ النبيذ ويقولون:" على شرف الدم."
لم تترك الحرب حلولاً أمام أدم سوى الانغماس بها، قرر أن ينضمّ للمقاتلين، حين لم يكن هناك كيانٌ عسكريّ يضمّ المجاهدين في صف واحد.
وصلت القوات الصربية العاصمة سراييفو، لقد كانوا امتداداً لعصابات الشتنك التي شبعت نهشاً بأجساد البوسنيين.
سدفة السماء مغرّقةٌ في سواد كئيب، وأصوات القذائف تلعلع من كل حدب، وهما جالسان في الصالة التي باتت مُغرَقَةً في الكآبة والحزن.
-آدم: لقد حسمتُ الأمر، لا أجد مهرباً من الحرب غير التوجّه إليها بقلب واسع وصدر رحيب، ولا أرى مكان لي سوى فيها.
أطرقت حواء صامتةً لا تنبس ببنت شفّة، فقط نظرت بعينين مكفهرتينِ ملأهم الحبور.
-آدم: غداً سأبعث بكِ خارج المدينة، إلى القرى البعيدة، على الأقّل إن عبر الصرب على أجسادنا في سراييفو، فلن يصلوا إليكم بكامل قّوته.
-حواء: أعلم أنّ معارضتِي لن تجدي شيئاً، أنا فخورة بكَ، وفخورة بالوجود الذي جمعنا ببعض، لن أقول دعنا نخرج سويةً، فلن تقبَل أنت، ولن أقبل أنا قبل أي شيء، ارتبطت برجل، والرجل من جَلَدَ وثبُت من أجل الوطن.
إنّ تضحياتِ الرجلِ من أجلِ وطنه، يعني أنّه سيبذلُ أضعافه لأجل فتاتِه.
أنا أؤمن بأننا سننتصر، وسأعود، وسنلتقي، وسننثر بذور الحب في قلبينا المقفرين من جديد.
ضمّها بقوة إلى صدره، وهدأ كل شيء في الغرفة، سوى ذينك القلبين، اللذَين تحدّيا صوت القذائف في الخارج.
انثال ضوء القمر زاحفاً عبر النافذة؛ ليستقرَّ على طرف جسديهما، لو كان جياكوميتي حاضراً لصنع لهما تمثالاً أسماه " حُبٌ يمشي " أو " حبٌ يتهافت "؛ لأنّ الحب كله ضاع والتقى بهما.
لفّت وشاحاً أبيضَ حول رأسها، بانت بعض الخصل من شعرها البنيّ، بدا وجهها الأبيض ووجنتاها المتشربة بلون ورديّ كأنّه وجهُ طفلةٍ مغرقٍة في البراءة.
تجمّع حوالي مئتا شخصٍ عند الجهة الشمالية للمدينة، رافقهم بعض المقاتلين من حَمَلة السلاح؛ لحمايته، ساروا قرابةَ خمسة كيلو متراتٍ على الأقدام، وفي صفّ طويل، سمعَت البعض يتكلّم عن مجزرة مروّعة في سربرنيتسا، وقالوا أنّ الأعداد وصلَت لثمانيةِ ألف شخصٍ، وبعضهم كان مذعوراً يرتعدُ كلّما سمع باسم الصرب وعصاباتهم.
يحاول الصرب الانتصار في الحرب بالتهويل، قالت في سرها: "إنّ أول طريقة للنصر في الحرب هي صناعة الخوف في قلب العدو، إننا حينَ نخاف نكون قد قدّمنا مفتاح النصر لأعدائنا".
واضعاً بندقيته بجانبه، ومتكئ على جذع شجرة، ومُغمِضًا عينيه في نصف إغفاءة، يسمع صوت حواء الشجيّ، يتراقصُ قلبه فرحاً، تعشوشب روحُه الظمأى، فجأة صحا فزِعاً من صوت قذيفة وقعت قربهم، كان الصرب قد وصل حدود سراييفو.
دخلت الحرب عامها الثالث، وما زال العالم يتفرّج، بدأت الاشتباكات تحتدم على مشارف سراييفو، قتلى تسقط كالمطر من الجانبين، ولا زال الصرب يُعْمِلون خناجرهم في رقاب المدنيّين، انتشرت مخيمات للاجئين في المدن والقرى الآمنة نسبيّاً.
كانت حواء من بين الآلاف الخارجين من مدنهم، ينشدون النجاة من المحرقة، توافدت أخبارٌ تقول أنّ العاصمة سراييفو سقطت، وأن عددًا كبيًرا من المقاتلين هناك سقطوا شهداءً، انكمش قلبُها، وارتخت قدماها، وشعرت بأنها تهوي من شاهق. بكت بصوتٍ خفيضٍ لم يُسمَع بين أصوات العويل من باقي البشر هناك.
بقيت تنتظر أخبارًا منه، تركض إلى ساعي البريد كلما اقترب، تستعلم عن رسالة منه، أو عن أخبار سراييفو، وكانت تعود كل مرة تجرّ خلفها انكساراً أصبح المقيم الوحيد معها.
تدخّل الناتو أخيراً بعد قرابة أربع سنوات من الحرب والمذابح، التي يشهد لها التاريخ بأنها أقسى المجازر بعد الحرب العالمية الثانية. غارات الناتو أعادت الصرب إلى مواقعهم، بل وأبعد قليلاً منها، وبدأت تعقَد المؤتمرات والاجتماعات لحلّ الأزمة البوسنية.
تدخلوا تماماً بعد أن تكتّل جنود البوشناق مع بعضهم، وبدأت تميل الكفة لصالحهم قليلاً، بعد أن أيقنوا أن المظلوم لا يمكن له أن يموت، وهو كالغصن في الشجرة سرعان ما يمتلئ بالأوراق وتزهر منه ورود الحرية.
تحررت سراييفو وبالي وسربر نيتسا وفوتشا ومناطق كثيرة، وخُمّنَ أن الفرح لم يعد ليكفي أهالي البوسنة.
على طريق العودة داهمها مزيجٌ من الفرح والغصّة والتوق والتمنّي، كانت تُوقن أيّما إيقانٍ بأن آدم ينتظرها هناك، وأنه على قيد الحياة، وصلت إلى منزلها الذي أضحى رماداً جراء الاحتراق، لم يبقَ به أي كيان يدلّ على أنّ الحياة وطأت جوانبه، نزلت إلى أزقة المدينة تطوف بها، وتسأل الجدران هل من راءٍ؟، هل من مخبرٍ؟، هل من مشاهد؟ ولم تجب عليها سوى خيبتها.
سألت الشمس: هل رأيت حبيبي؟ فتوارت خلف الغيوم باستحياء، حين فقدت الأمل، جلست على حجرة كبيرة وليدة انفجار ما، أغمضت عينيها تنشق وتبكي، وتسترجع صور رجلِها، تخيلته قادمًا بهيبته، رأت الشمس تلاعب خصلات شعره، رأته يقف أمامها، ثم ينحني ليجثَو، ثم يريح رأسه في حضنها.
فتحت عينيها، رأته كما تخيلته، راخياً رأسه في حضنها، مسّدت شعره بيدها، ثم انكفأت هي الأخرى عليه، ومالت برأسها على ظهره تسنده وتريحه.
فكان لكل آدمَ في هذه الحياة حواء، ولكل حواء آدم، ولا سند لهما إلّا ببعضهما..
مؤمن الرمضان

0 تعليقات