"في منارةٍ بأعمقِ نقطةٍ من البحر، يجلسُ رجلٌ هادئ بسيجارته المشتعلةِ كاشتعالِ أفكارهِ بداخلِ عقلِه لا يرتبُها سوى فنجان قهوته العربية الذي يحتسيه، وقلمهُ بيدهِ الأخرى، يُفرغ به أفكاره، ويكتبُ عن حوريته التي انتظرها حتى اليومَ قرابة الثلاثون عاماً، يستطيعُ أن ينتظرها لبقيةِ عُمره. يكتبُ لها"" أؤمن أنكِ ستأتين يوماً ما، أشعر بكِ على مقربة مني، أشعر بدفءِ أنفاسُكِ وأنتِ تقتربين مني بينما أكتبُ تلكَ الكلمات، اعتزلتُ العالم وجئتُ لأسكنَ تلك المنارةُ كما أخبرتني أنتِ في حُلمٍ سابق، أخبرتِني أننّي سألتقي بكِ هُنا، آمنت بذاك الحلم عن ظهر قلب؛ لأنني وجدتك تُشبهين أمواج البحر في صفائها، وكأنما الأمواج هي خُصلات شعرك الحريري ،أردتُ الإبحار بين خُصلاتك، وعزمت على تحمل أمواجك العاتية أيضاً واتخذت قراري وجئت إلى هنا"". في جزيرة على اليابسة تطلُّ على البحر مباشرة، تملؤها الجبال المنحوتة كقطعة فنيّة، تعيشُ فتاة بروح طفلة، جميلة هادئة، تراها دائماً جالسة على مقربة من البحر، تُشبه الحوريات من بعيد، تتحسس البحر بيدٍ وبالاخرى تُمسك كتاباً، أحياناً تراها مبتسمةً وهي تقرأ عن قصة حب قَيس وليلى، وأحياناً تراها تقرأُ لمي زيادة، وتارةً أخرى تراها تبكي لتتبين أنها تقرأ رسائل كافكا لميلينا، تستطيعُ أن تعرفَ من عينيها أنّها تُشفق على كافكا، وأحياناً تتمنى لو أنها مكان ميلينا؛ ليعشقَها كاتب ككافكا ""سجلتْ السماءُ أمنيتها"" تنتهي من جلستها على البحر مع غروب الشمس كل يوم ، لم تغربَ شمس اليوم بعد وجميلتنا مازالت تجلس ولكنّها تكتب شيءٌ "" حلمٌ واحد يراودني منذُ العديد من الايام، شخصٌ ما ينتظرني في بقعةٍ بعيدةٍ في البحرِ يُناديني، يَمُدّ يدهُ لي كي أذهب معه، يحثّني على اتباعه، يُطمأنني، يسألني أن أذهب معه ليَسْكُنٕ إليّ ، في الحلم يبدو وكأنه تائه "" تغلق دفترها فقد حان موعد عودتها، لا تستطيع الذهاب وكأن شيءٌ يناديها ،هل هو البحر؟ لا تعلمْ فكأنّما البحر يناجيها فعلاً، صوتٌ من بعيد يهمس ""أنتظركِ حواء"" حواء التي تعرف المنطق والفلسفة وتقرأ فيهما وتغوص في بحارهما ليلاً نهاراً تستجيب لنداء البحر ، فأي منطق هذا؟! استجابت.. استجابت لنداء البحر وهمْسُ أذنيها وضجيج قلبها، أخذت تسبح ولا تعرف لأين، فكانت النجوم دليلها، والقمر منارتها، و أمواج البحر خريطتها، حملَ البحر جسدها الممشوق، وأخذ يحرّكها برفق حتى رأت منارة بوسط البحر وأعلاها هلال مُنار، كالذي تراه في معظم أحلامها، تأتي ومضات أمام عينيها تحثّها على السباحة بسرعة أكبر تريد أن تعرف ما هذا . وصلت المنارة، صعدت السلم بالخلف، وكأنها تعرفه من قبل، تلك ليست مرتها الاولى، على ذلك السُلَم في نهايته باب مفتوح، وكأنما صاحب المنزل ينتظر زوّّارًاً ، دفعت الباب بيدها، وجدت شخصاً مُمدّّدًاً على أريكة، ويغطُّ في نوم عميق، أخذت تتأمل ملامحه، ولكن جسدها الهزيل لم يتحمل السباحة كل تلك المسافة، فأسندت ظهرها للحائط بجانب الأريكة، وذهبت في ثُبات عميق -رُغماً عنها- فقد تملكها التعب، بعد حوالي ساعة أفاق صاحب العيون الواسعة وأخذ يفرُك عينيه واعتدل في جلسته، فرأى حورية مُبتلّة تجلس بجوار أريكته. خبط رأسه بكفّه علّه يستيقظ، ولكنها مازالت موجودة ""استيقظ آدم فوجد حواء بجانبه"" كل منا يأخذ نصيب من اسمه أهذا ما يحدث الآن! مدَ يده يتحسس تفاصيل وجهها ليتأكد، أُزيحت الجفون؛ لتُفصح عن مُقلتبن زرقاوتين كزرقةِ السماء في صفائها، انتشلَ يده سريعاً ،فسألته: حواء: من أنتَ؟ آدم: أنا من يجب أن يسأل هذا السؤال، فكما تَرين أنتِ في منارتي. حواء: لقد دفعني الموج ووجدتُّ نفسي هنا، لا ادري لما هُنا تحديداً وكأنني سُحِرت. آدم: ما اسمكِ يا ابنةَ حواء؟ حواء ، اسمي حواء. آدم: لا يرد وبداخله الكثير من الأسئلة والإجابات في آنٍ واحد مخلوطين بالاشتياق والسعادة. ولكنه يعرف جيداً كيف يتحكم بنفسه، يعرف كيف يفعل ذلك ويظل هكذا بمظهر الواثق ""ولكن متى استطاع أحدٌ أن يُحافظ على رباطة جأشه أمام محبوبه!"" آدم : تشرفت آنستي. آدم، اسمي آدم. اعتدلت حواء بجلستها، فقد انتبهت للتوّ لجمال عينيه وعذوبة صوته، تساءلت بداخلها أين سَمعت ذلك الصوت؟ ، ولكنها تاهت بعينيه مما أبقاها صامتة. هو؟ هو مُبحر بأمواج مُقلتيها مُنذ أن أُزيحت عنهما أهدابها. بقيا صامتين لدقيقة ""أو كما ظنّا أنّها دقيقة واحدة"" ظلّا ينظران لبعضهما دونما كلامٍ أو حِراك، استطاعت الأعين أن تقول مالا يُقال، ما لا يُعبّر عنه المنطق، مالا يستطيع سقراط أو آرسطو صياغته أو وصفه بعبارات محددة. مضتِ الدقيقة كدهر من الزمان، سكنت الجوارح، سكن قلب آدم بين ضلوعه، وأخيراً سكن القلب الذي استمرّ في الاشتياق والخفقُ لسنوات. وجدت حواء التأويلات لأحلامها، كل ذلك ولم ينطق أي منهما بكلمة. ""توهج القمر في تلك الليلة على غير العادة، واقترب منه نجم الزهرة وأخذ يلمع في منظر لم يَحدث من قبل"" *يُقال ، مع كل قصة حُبٍ تحدث، تُولد نجمة جديدة تبقى ساطعة لعدة ليالٍ* في صباح اليوم التالي هاج البحر وجاء بحدث مشؤوم . في وسط الضوضاء، باب المنارة يُكسر، صوت لعنات، صرخات حواء، صوت آدم يتوعد من يُمسك حواء وهو مُقيد، أدرك قوم حواء تغيبها عن المنزل فظنّوا أن البحر ابتلعها، ذهبوا ليبحثوا عنها وهم بوسط البحر سمعوا صوتاً على مقربة منهم"" نَم يا حبيبي الآن، نَم عن بيتنا غاب الألم، نَم يا حبيبي"" فعرفوا أنه صوتها ومن أين يأتي، فذهبوا غاضبين ليأخذوها. تحول آدم لوحش غاضب يحاول نزعها من بين أيديهم، فما كان له أن يترك حوريته بعد أن بعثها له القدر بتلك السهولة، أشارت له حواء بعينيها أن اهدأ. ""علي الرغم من انهما لم يمكُثا سوى ليلة واحدة مع بعضهما، ولكن أرواحهم تعرف بعضها، من قبل أن تتلاقى الأجساد، لطالما تواصلت الأرواح على مرّ السنين، فكيف للأعين ألا تفهم!"" أخذوها وذهبوا . جلس آدم يفكر كيف سيصل إليها . حواء في غُرفتها أسيرة لا تنفكّ تفكر في تلك العينين التي أسرتها من النظرة الأولى""من بين عيون الناس اخترت جوز عيون اللي قتلني" وللمرة المليون تفرضُ الموسيقى رأيها أخذت تسترجع أحلامها؛ لتتبين أنه ذات الرجل الذي كان يظهر بأحلامها، قفزت حواء من مكانها أخيراً حصلت على الجواب، أخيراً. تخلى آدم عن منارته وذهب يبحث عنها ويسأل كلّ بشريّ يصادفه عن فتاة بمواصفاتها إلى أن عثر على بيتها . وحينما جَنَّ الليل تسلل لبيتها، يعرف أنها تُحب البحر فحتماً ستكون غرفتها مقابلة للبحر، وبالفعل وجدها في شُرفتها تطالع النجوم. وقف آدم مكانه لا يقوي علي المُضي قُدمًا، فقد رأى حواء مُسدلةً شعرها على كتفيها، غطّى شعرها معظم ظهرها، وهي بفستان أبيض رقيق كرقةِ بشرتها تشبه الحور العين، أفاق من شروده على صوت شهقاتها. حواء: ما الذي تفعله هنا؟ آدم: جئت استردّ حواء، فما كنت لأدعها تذهب هكذا ""بصوت واثق"" حواء: اذهب حيث أتيت ""بوجه وملامح جامدة"" آدم: لن أذهب ""دونما يظهر عليه علامة تعجب واحدة وفي نفسه مئات العلامات"" حواء: انا لا أعرفك ولا أريد حتى أن أعرفك ، فماذا تريد مني ؟ آدم: يكفي أنني أعرفك، أعرف أنكِ هي أعرف ذلك، لذلك أتيت إلى هنا؛ لذلك أرشدك الموج إلي. حواء: اخرج من هنا قبل أن أقتلع قلبك من مكانه. آدم: ومن قال أنكِ لم تفعلي ! احمرت خجلاً، ولكنها بقيت محتفظة بصرامتها. اذهب من هنا وكفاك سخافة، فأنا لستُ من تبحثُ عنها ولن أكون طرفاً في أحلامك السخيفة تلك، وابحث عن فتاتك الخيالية بعيداً عني أيها الحالم ""بنبرة مستهزئة"" توهج وجه آدم حينما تكلمت بتلك النبرة، قبل أي شيء فهو رجل شرقي لا يقبل الإهانة حتى من حبيبته، ففي تلك اللحظة كان عليه استعداد أن يُطعن بحربة بقلبه ولكن لا يسمح بأن يُهان. ""بنبرة حادة ووجه مشتعل قالها "" سأذهب الآن؛ ليس لأنني لا أستطيع فعل شيء بل لأنني لا أهين كرامتي أياً كان ما سأعانيه لاحقاً، انتظرتك لسنوات وأستطيع أن أنتظر أكثر، وغادر. جلست حواء تبكي بعدما ذهب، أحبته حواء من أحلامها وتعلق به قلبها فور رؤيته ولكنها تعرف أن ""الحياة ليست عادله"" ، تعرف أنها لا تستطيع الاحتفاظ بآدم فحتمًا سيذهب ويتركها بيوم من الأيام؛ و لذلك فضلت أن تتركه يذهب الآن وتحتفظ به في قلبها، وبذكراهُ في أحلامها، وبين طيات مذكراتها فقط . قبل أن يأتي آدم بقليل كانت تعقد اتفاقاً مع النجوم أنها ستتركه يذهب، وكأن السماء أرادت اختبار صدق وعودها، فبعثت به في الحال. خرج آدم مُحطم، خالي الوفاض، مُدمَى القلب، مدمع الأعين، نظر للسماء فوجد تلك النجمة التي أوقدت ليلة عثوره على حواء، اختفت! القمر أيضاً كـفرتهُ الغيوم. جلس على الشاطئ يجمع شتات نفسه وبكى وبكت معه السماء وأخذ يصرخ ""سأنتظرها ، سأنتظرك حواء"" وفي تلك الليلة الباردة تقطعت أوتار قلبه ، وانتهت أحلام حواء بكابوس دائم .
0 تعليقات