٢٠٠٤ في يومٍ من شهرِ سبتمبر، حيث النسيمُ يراقصُ الروحَ، والشّمس ألبسَت بغدادَ ثوبَ عرسِها في جامعةِ المستنصريةِ، دخَل إلى القاعةِ رجلٌ ثلاثيني مُهيب الطلة، وشعرهُ المسدولِ كليلةٍ قمراءٍ أبيضٍ وسيمِ الوجهِ، كان يرتدي زياً رسمياً يليقُ بمنكبيهِ العريضين، لم يكنْ التأخيرُ عادته، لولا عطلٌ أصابَ سيارتُه قامَ جميعُ الطلبةَ له بإستثناءِ طالبةٍ واحدةٍ فرمقَها بنظرةِ عينيه الواسعتين الساحرتين، وسألَها أنتِ لماذا لم تقفي؟ ما إسمك؟ لم تدركْ ماذا يتحدث إلا بعد أنْ أخبرتَها صديقتُها بلغةِ الإشارةِ، بعد عدةِ ثواني أجابتْ إسمي حواء، قالت له أنا صماء أعتذرُ منكَ أستاذ كنتُ أكتبُ في دفتري ولم أنتبهَ حينَ دخلتْ. أصابَهُ ذهولٌ، وشردَ ينظرُ إلى النافذةِ لم يكَن علي أن أحرجُها، ولا أسألها بعدها شرعَ ليبدأَ درسُ الفلسفةُ لكن زاغتْ عينيه بجمالِ حواء بشعرَها البني المتموج بشرتَها البيضَاء كالدرِ، واللؤلؤِ في المحارِ وهدوئها السرمدّي بعد إنتهاءِ الدرس، نادَاها الأستاذ حواء، فأخبرَتها صديقتها، ذهبتْ إليه قال لها: بالإشارة لم أقصدْ أن أسببَ لكِ إحراجاً أنا سأكونَ أستاذكِ إن واجهتي أيّ صعوبةٍ في أي شيءٍ أخبريني فقط، فهمتْ حواءٌ وقالتْ له شكراً أستاذ. حواء تدرسُ المنطقَ والكلامَ، والسير والنظم إلى جانبِ دراستها الجامعيةِ في قسمِ الفلسفة، كانَتْ تكتبُ كلَّ شيءٍ يدونهُ الأستاذ، وتعتمدُ على كتبها فقط بمساعدةِ صديقتها أيضاً. دَخلت في أحدِ الأيامُ بفستانٍ أبيضٍ مطرزٍ بالأزرق وشعرُها الطويلُ، سطعتْ فوقَهُ الشمسُ فكانَ ككوبٍ من القهوةِ تمشي الهوين رقيقةٌ كجناحِ حمامٍ وكبتلةِ وردٍ، آدم كان في كلِّ مرةٍ يرآها كأنه لم يرى إمرأةً من قبل، وتهيمُ عينيهِ بها وعقلهُ يصبحُ في عالمٍ آخر. في منتصفِ المحاضرةِ سألها بالإشارة ما هي فلسفة الجمال، وماذا نعني بها أجابته فجمدَ في مكانه كأنَّه صُعقَ، أو أصبحَ مكعبَ ثلجٍ فقالَ بينهُ وبينَ نفسِه أسفاً أنّكِ لا تسمعين جمالَ صوتِكِ عذبٌ كماءِ نهرٍ، كلحنِ ناي كموجِ البحرِ، إنتبهتْ حواءٌ لنظراتِه كانَت تشيحُ بنظرها عنه في كلِّ مرةٍ. يوماً بعد يوماً كان يزيدُ شغفَ آدم بحواءٍ، وهي عرفتْ من عينيه التي لا ترى إلا هي، كما إن باتَ كلَّ شيءٍ واضح وأصبحَ آدمُ ليسَ الأستاذ فقط بل العاشق، حواءٌ رُغم أنّها صماءٌ لكنّها سمِعتْ نبضُ فؤاده رأتْ روحه، ومالَ فؤادها إليه أيضاً. آدم رأى حواء في باحةِ الجامعةِ وهي تضحك مع صديقاتها، وتمثل نظرات آدم لها لم يستطعَ أن يغضبَ منها أو يحرجَها بل وقفَ ينظرُ إليها من بعيدٍ دونَ ملاحظةِ أحد قد أصبح ممثلاً ناجحاً بفضلها أيضاً. في أحدِ صباحاتِ شهرِ مارس دخلتْ حواء متأخرة جداً غضبَ آدمُ منها كثيراً، ورمى الأوراقَ على الأرضِ وضربَ بقبضةِ يده على المكتب قالتْ حواء وهي تحاول أنْ تخبرَهُ أستاذ.... فآدم صرخَ ولا حرف إنتهتْ المحاضرة، بدأتْ دموعُ حواء تترقرقُ في عينيها وخرجَت من المحاضرةِ وغادرتْ الجامعةَ أصلاً في ذلك اليوم. آدم ندمَ على غضبه وشعر أنّه قد بالغَ بردةِ فعلِه هكذا هو يثورُ كالبركانِ عندَ غضبه في هذه الأثناء طرقَت الباب إحدى صديقاتها وجدته يجلسُ وحدهُ يفكر في غرفته، وقالتْ لهُ أستاذ حواء كانتْ والدتَها في المستشفى لقد فقدتْ الوعي منذُ أمس، وهي هناكَ معها لذلك تأخرتْ وجاءتْ بصعوبةٍ، قال لها حقاً ما تقوليه يا مروة قالت نعم. في المساءِ أخذَ علبةً من الحلوى، وذهب إلى المستشفى طرق بابَ غرفة والدتها ففتحت له حواء أصابتها حيرةَ العشقِ ودهشةِ الأمر، وكبرياءِ النفس سلم آدم على والدتها متمنياً لها الشفاء، وتركَ ورقةً لحواءٍ فوقَ المنضدة بعدَ أن رحلَ، رأتها فتحتها كان مكتوبٌ فيها بخطٍ جميل، لم أقصد أن أصرخ اليومَ عليكِ، أو أجعل عينيك الخضراوتين تبكيان أتمنى الشفاءُ العاجلَ لوالدتِك، وفي آخر الورقة أحبكِ. حواء حين قرأتَها شعرتْ أمها بسرِ إبتسامتِها لكنْ لم تقل شيئاً لها. كتبتْ لهُ رسالة حين خرجت من القاعة وضعتها على مكتبهِ دونَ أن تنظر إليه في كلِّ مرة تخبرني أنّك تحبّني تدخلُ الكلمةُ جوفَ عظامي ودمي، حتى بتُ أخشَى أنْ أمتلأَ بها وأمتلأُ بكَ. لم أكتُبَ بهذا الشغفِ والإصرارِ، لم أكتُبَ بهذا الأمانِ والاستقرارِ من قبلٍ ولا لأيِّ شخصٍ، كتبتُ وكتبتُ وكتبت لكنَّ الآنَ يعتلنُي شعوراً لا إرادي بالكتابةِ عنكَ لا أجدُ غير أن يدي تكتبُ عنكَ، تتدفقُ الكلماتُ مني كجرحٍ نديٍ ينزفُ كماءِ شلالٍ جاري كجزيئاتِ الهواءِ التي لا تنتهي كشوقِ الصحراءِ للمطرِ الأبديّ. ولكنّي أخشاكَ وأخشى عليكَ ومني ومنكَ ينهشُ قلبي، وشراييني شعورِ الخوفِ هذا خوفٌ أن أحبكَ، خوفٌ أنْ أتعلقَ بكَ خوفُ أنْ أخسركَ وخوفُ أن تنسَاني و تتركني. توالَت الأيامُ والفقرُ يمزقُ حواءٌ وينهشُ قلبُها وحياتُها التي تعيشُها، بعدَ مرضِ والدتها التي كانَت تعملُ خياطةٌ، لم يعدْ لديهم أيُّ مال، أو طعام فقامَت حواءٌ ببيعِ خاتمِها الذهبي، الذي كانَ ذِكرى والدُها كانَت تحبُّه كثيراً، وطوالَ هذهِ الأيامُ كانَت متغيبةٌ عن الجامعةِ وكانَ آدم يستمر بالسؤالِ عنها. بعدَ عدةِ أسابيعٍ عزمَ زيارتُهَا في البيتِ، لأنَّ صبرهُ حلَّ رمادٌ متناثرٌ. في الساعةِ الرابعةِ عصراً، بعدَ أن أخذ العنوان من صديقتِها تفاجأَ أنَّ حواء تسكنُ في هذه الأزقةِ القديمةِ والبيوتِ الباليهِ وصلَ إلى البيت. طرقَ البابَ ثلاثِ مراتٍ فتحتْ له حواء فأصابَهما صمتٌ صاخبٌ، ونظرةٌ ذَهولةٌ كان وجهُ حواءً حزيناً كنقشٍ منسيٍ ككحلٍ غجري، أَحضرتُ لهُ الشايَّ وهو يجلسُ بالقربِ من فراشِ والدتها، شعرَ أنَّ هناكَ أمراً سيءً حدثَ جعل الحوارَ طبيعياً حتى خرجَ لبابِ البيتِ وسألَها فأنهمرتْ دموعُها كجرحٍ يتدفقُ منه الدمِ تتمتمَ كأنّ لسانُها عُقدَ، أمي مصابةٌ بالسرطانِ يا آدمُ ورمٌ في الدماغ، وأنا يتيمةٌ ليسَ لي أب ولا أخوة في هذه الحياة ماذا أفعلُ دونَها، وسقطتْ عندَ البابِ منهارةٍ. صُدِمَ آدمُ بما سمعه وضعَ منديلٌ في يدِها لتمسحَ دموعُها، وحاولَ أنْ يُهدئ من روعِها لكنَّه لا يستطيعَ البقاءُ، رحلَ وقلبَه معلقٌ في مشتقةِ حواء ويديه مكبلة بدمعِ عينيها. طوالَ الطريقِ وهو يقودُ السيارةَ، كانَ يراها في كل اتجاهٍ وزاويةٍ اتصلَ بإصدقائه الأطباءِ، ومن يعرفُهم لكنَّ الإجابةَ كانتْ واحدةٌ ولا سبيلَ من الفرارِ من جحيمِ الوداعِ ولعنةِ الرحيلِ. بعدَ مرورِ شهر توفيتْ والدةُ حواء تاركةً خيبةً وأسى يمزقُ أحشاءُ ابنتها سرقها السرطانُ، وعادتْ روحها إلى الرّحمن حواءٌ لم تكنْ بوعيها طيلةِ أيامٍ العزاءِ، وكانتْ منهارةٌ تماماً كانتْ جافةٌ كنهارٍ في الصحراءِ غريبةٍ كجثةٍ وحيدةٍ، وكئيبةٍ كليلةٍ بلا قمر ونجوم أصيبتْ بالإكتئاب الحادِ وكانتْ ترفضُ أكلَ الطعام لم يكنْ بجانبِها أحدٍ سوى صديقتها مروة. لكنَّ آدم ظلَ يزورُها ويطمئنُ على حالِها ويحضرُ لها ما يلزمُها. بعدَ مرورِ أربعةِ أشهرٍ وانتهاء العطلةِ الصيفيةِ وبدعمِ صديقتها وآدم عادتْ لتكملُ عامِها الأخير في الجامعة. بعد أن تحسنتْ صحتُها ونفسيتُها ذهبَ آدمُ ليتقدم لخطبتُها وأخيراً مع أخته كانت حواءٌ مثلَ ليلٍ مهجورٍ مثلَ غصنٍ مبتورٍ، ترتدي الأسودَ كريشِ طيرٍ جناحه مكسور. لكنَّها ابتسمتْ رُغمَ وجعِها، وقالتْ له آدم لكنْ.... ولم تكملُ جملتها حتى أخبرها لا داعي للقلق سنقيم كلّ شيء بهدوءٍ وصمت. قالتْ له حواء لكنْ أنا لست موافقة وكانت مروة جالسة قربها تشرحُ لهم إشارات حواء فأجابتْ أن تستحقَ واحدةٌ أفضلَ مني، وأنا لم أتقبلَ موتُ أمي بعد أرجو أن تمنحني الوقت. آدم لم يقلْ سوى كلمة واحدة حسناً، وترك رسالةٌ قربَ كأس الشاي كتبَ لي أنَّك تخافين أن أتركك يوماً وتخافين أن أهجركِ وتخافين من هذا العشقِ، لكنّ الأمر أننّي لا أشعرُ بمرورِ الوقت معكِ أودُّ أن يتوقفَ، مثلُ قطعة قماش لم تشبع من الدمِ مثل زهرةٌ لم تشبعَ من الماءِ مثل سكير لم يشبع من كأس خمره، كأنّكِ روحي فهل رأيتُ أحداً يتركَ ويهجرَ وينسى روحَه. أحبكِ إلى الأبدِ. وخرجَ خائبُ الآمالَ ولديه ألفَ سؤالٍ ويشكو من هذا الحالُ ويندبُ العشق وتلك الليال. بكتْ حواء حتى نامتْ، كان هذا الشعورُ شعور التناقض أحدهم يخبُرها أن تبقى وتتزوجَ بأجمل والآخر أن تترك كل الألم، والسواد في بغداد وترحل بعيداً شعور أنّها كانتْ تتمنى لآدم فتاة أفضلَ كانت تشعرُ بالنقصِ لأنها صماءً كانت تشعرُ أنّها ليستْ مناسبةً وليست مثالية له رغمَ كل حبَّها له، ورغم معرفتها أن الجسدَ والشكلَ والمادة ليست مهمة في العشقِ بل الروحُ هي كل ما يدورُ حولها ومرآتها القلب. تخرجتْ حواءٌ وأنهتْ دراستُها الجامعيةَ بعد رفضِها لآدم بعدةِ أشهرٍ وكانت من العشرِ الأوائل حصلت على منحة للدراسة في الخارج فسافرتْ إلى لندن، وتاركةٌ قلبها ينزف بين يدي آدم قستْ على نفسها وعلى آدم كرهت كل شيء بعد وفاة والدتها أسودت بغدادَ في عينيها، ولم يتبقَ بها شيءٍ سوى عطرُ أمها. مرَ شهرٌ عليها وهي في لندن كانت الأخبار منقطعة بينها وبين آدم، وحبلِ الوصلِ قد جف وحنين العشق قد خف. في الساعةِ الرابعةِ صباحاً جاءها اتصالٌ من العراقِ....الو حواء آدم في المستشفى أصيبَ بحادثِ سيارةٍ وهو الآن بين الحياةِ والموت ويودُ رؤيتك سقطَ الهاتفُ من يديها، وبكت بصمتٍ ودمعها يحرقُ خدها. حجزتْ تذكرةٌ في أولِ طائرةٍ لبغدادِ وأمرت كل شيء. وصلتْ حواءٌ لبغداد ومن المطار إلى المستشفى، دخلت إلى الغرفة وجدتْ أخته ومجموعة من الطلاب خرجوا جميعاً جلستْ عند رأسِه وأمسكتْ يدهُ وهي تقولُ سامحني يا آدم لن أرحلَ وأتركُك مجدداً تباً للندن أحبكَ كثيراً، ولن أترككَ مرةٌ أخرى أنا آسفة. فتح آدمُ عينيه وقال لها إذا هل ستتزوجيني ووضعَ يده على إصبع يدها اليسرى لتفهم قالت له نعم وهي تبكي.. قال آدم لا يهمني إن كنتِ صماءً أو يتيمةً أو أنّك فقيرة، ولا يهمني عمرُكِ لونك شكلكِ دينُك جنسيتُك ع عرقك عائلتُك كلّ ما يهمني أننّي أحبكِ وإلى الأبدِ وحتى إن كانت لي ألف حياة أخرى سأحبكِ فيها.
0 تعليقات