بين رقة طبع المدينة وبساطة عيش الريف، بين غرور ودهاء المتمدنين وغلظة وخشونة الريفين، عشت فصلين منفصلين في حياتي لا خريف أو ربيع بينهما. انتقلت بين ليلة وضحاها بعد النزوح من الهواء الطلق، إلى الانبعاثات المزعجة من ثاني أوكسيد الكربون. ومن ضيق الريف وفقره، إلى سعة المدينة وغناها، ومن حرب تقضي على الأخضر واليابس، إلى سلام لا ينغصه إلا قلوب متيبسة كالحجارة أو أشد قسوة.
لم يكن هذا الحدث ليمر عليّ بهذه السهولة، بل اقتضى مني الكثير من الوقت كي أتعايش مع كل التغييرات الفيزيائية والاجتماعية والبيئية.
فتغيّر أولاً شكل مظهري، وأصبح ريفيًا معاصرًا للمدينة على أنه أقرب إلى شكل المدنيين العصري إذا ما نظرت إليه بعين الريفي البسيط الذي يراك غريبًا ومدهشًا ومبجلًا؛ كعلي في التغريبة الفلسطينية حينما يزور أهله في القرية أثناء العطلة مرتديًا البنطال حاملاً حقيبة ثمينة أنيقة !هكذا يروني حينما أرتدي ثياباً أنيقة نظيفة، وحذاء ملمعًا لا يعلوه شائبة غبار، أو حينما أرفع حقيبة حاسبي المحمول، في حين أن مثل هذه الاختراعات لم ولن تصل إليهم إلا بعد عشرات السنين ربما.
كذلك تغيّر طبعي كثيرًا على من كان يعرفني سابقًا. كيف لا، وأنا أعيش بين قوم من ملأ المدينة، لا يتفاهمون إلا باللباقة واللطافة ورقة الحديث والمجاملات، وحتى لو حملوا في قلوبهم الضغينة والبغضاء لك ..!
بينما كنت أعيش ضمن قوم قرويين يقع ما يضمرونه في باطن قلوبهم على رؤوس ألسنتهم، ومثلهم الشهير (دجني دجتك العافية) أي لا بأس بأي كلام جارح قاسٍ طالما أنه حقيقي صادق نابع من القلب.
لم أقل أني تعلمت الكذب والنفاق، ولكن من كل بستان جميل قطفت زهرة، فما المانع من أن تقول الصدقَ بلسان عربي لطيف مهذب ؟!ما المانع من القول الحسن والمجاملات وحلاوة اللسان طالما كان القلب سليمًا خاليً من الشحناء والكراهية ؟!
تغيرت معاملة العائلة بأكملها مع بعضها، وصار الجو أقرب للتفاهم والتشاور ولو حافظ على أسلوبه الفظ كل هذا نظراً للتأثر بكلام الناس وأحوالهم وانفتاحهم، ولا بأس بهذه الدرجة، فقليل من الخير وكف الأذى كذاك، ليس فيه ضرر.
تغيرت نظرتي لأهل المدينة وللمدينة نفسها، فمن بغض شديد إلى ود شديد، ليس عليك بالإصغاء لكلام الناس النابع عن الغيرة والإحساس بالدونية طالما أنك لم تذق طيب معشر الطرف الآخر، ولم تساير علوه وكبريائه وغروره.. !
لا تكن مغرورًا أيضًا ولا متعاليًا على الفقراء، ولا تنغمس أكثر من اللازم، خذ من كلٍّ ما يفيدك ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
إن كل ما سبق لا يعد شيئًا أمام ما قد تغير فيَّ، وهو أهم شيء (عقلي)، فمن أكبر النعم والعطايا في هذه المحنة أن أُتيح لي التعلم في مدارس راقية ومحترمة مقارنة بمدارس الريف التي لا تكاد تحتمل من قلة النظافة والاهتمام والعناية، وسوء أخلاق المعلمين والموظفين، وعدم اهتمام بعضهم بما يدرس، وأي جيل هو الذي يبنيه، واختبرت أخيرًا شعور السعادة أثناء نقاش أحد ما يقرأ كتبًا مثلي، أو أحد يتفهم مواهبي وقدراتي.
صليت في مساجد المدينة الجميلة، حقًا أكاد أجزم أن أجمل ما فيها مساجدها والطمأنينة فيها، وزرت معالم وأسواق، وحفظت شوارع، وركبت باصات للشرق والغرب، لم أكن أتخيل يومًا أنني سأمر عليها جميعًا دون أن أموت ضائعة مشردة؛ لتشابه الطرقات والحارات.
أعود إلى قريتي مهندسة معلمة صغيرة محملة بكل هذه الذكريات عن المدينة، وبكل طباعي وثيابي وأخلاقي ومعتقداتي الجديدة. فأدعو الله أن يرزق طلابي الصغار أضعاف ما شعرت من سعادة، وأن يبلغوا من المجد والمراتب أعلى مما بلغت، أمسح الجهل والشعث عن عقول متصلبة يائسة جاهلة، وأعيد نور الإيمان والحب والعلم لتحيا قريتي من جديد، وتعمّر بإذن الله كما عمرَ اليابانَ أبناؤها بعقولهم وأفكارهم قبل سواعدهم وآلاتهم.
بقلم هبة الجبه جي
مجلة أزرق _ العدد السادس
2 تعليقات
رائع ... بكل ما فيه
ردحذفكمرورك 🌷🙈
ردحذف