أدب الرحلة | إدلب
قرابة العام والنصف على تعلقي بها، منذ خطوتي الأولى.
انتشقت رائحة البساطة في أحيائها وأبنائها، عشقت طرقاتها وميادينها، أكاد لا أنزل فيها إلا لتبدأ جولتي في أزقتها وممراتها. مدينة إدلب، لا أعلم أأنا من قدمتُ إليها، أم هي التي قدمت إليّ؟.
في إدلب، يبدأ الصباح بكوب شايٍ معطر بالياسمين، تنده فيروز من شبابيك الجيران: احكيلي عن بلدي حكاية،
بينما يُعِدُّ أبو محمود فنجان قهوته لتفوح رائحتها مع زهور النرجس عند شرفته المطلة على طريق كليِّتنا، فترتسم ابتسامة من القلب، وتُكمِلُ فيروز ما بدأت، في قهوة عل مفرق، كيفك أنت، ياطير، في مشهدٍ يتجدد في مُعظمِ أحيائها.
في إدلب، التي اتَّسعت لكل من قصدها، تجد عند كل زاوية خبر وذكرى، تروي لك قصة مضت عليها، وتكتب لك قصة أخرى.
تجدُ فيها دُنيا كاملة من كل بلاد العالمين، أسواقها، وميادينها، وأزقتها، وأحجارها، مآذن الجوامع، آيُ المصاحف، ارتجاف الأغاني، ابتسام المسنين، خبزُ اليتامى، نقوشُ الأواني، وأرصفة الشوارع مزينة بأشجار الزيتون والياسمين.
تكاد رائحة التراث لا تفارق أحيائها القديمة، ابتداءً من أحيائها الجنوبية والشرقية، المرصوفة بأحجارٍ ينحدر نسلها إلى جذور التاريخ، بيوتها عربية عتيقة، في وسطِ فسحتها نافورة مياه عذبة، وفي أحواضها النرجس والورد الجوري يعانق شبابيكه المقنطرة، يسكنها بُسطاءٌ من أهل المدينة الأصليين، أزقتها ضيقة، مسقوفةٌ بعضها ومكشوفةٌ أُخرى، تهبُ منها نسماتٌ من الحب المعتّق تتغلغل في شوارع المدينة، تُصيبُ كل ذي قلبٍ رقيق، تنبض باسم كل عشيق، وتنقشه على جدرانها ليبقى ذكرى على هذا الطريق.
تتجهُ قليلاً نحو الغرب، إلى أسواقها المعمورة، منتشرة بانتظامٍ في مركزِ المدينة وحولَ برج الساعة، فيها من كلّ شيءٍ وفرة، يناسبُ تماماً ما يحتاجه أهلها ومن يقصدها.
تَجُرّك شوارعها العريضة والضيقة، المزيّنة بأشجار الزيزفون بانتظامٍ على أرصفتها، إلى أحيائها الحديثة،
مروراً بحيّ المحافظة، وفيه مركز المدينة ودوائرها الرسمية، إلى حيّ القصور، والذي يخبرك اسمه عن رُقيّه، بأبنيته الفخمة وشوارعه المزيّنة.
اتجه غرباً إلى حي الثورة، أحد أقدم أحياء ادلب، ستجد ما يشدّك لإدلب أكثر وأكثر، طيبة الأهالي ومعاملتهم الحسنة. وجامع سعد بن أبي وقاص، الذي يتوسط الحيّ هو من أجمل المساجد في المدينة، يشدو الشيخ بعذوبةً فيه، فترى صفوف المُصلّين تتزاحم من خلفه.
أكمِل المسيرَ شمالاً، ستجد كليّة الآداب القديمة، وطلابها وطالباتها من مختلف المدن والمحافظات، ستجد فيها بساطةً وتناغماً وصداقةً متينة رغم الاختلافات. ثم تأتيك حديقةِ المشتل، أزهارها وأشجارها وممراتها، أجواءها المميزة، ورائحةَ الحُبِّ تفوح في كلّ مكان، ستجعلك تلتقط لنفسك فيها بعض الصور. تفصلُ الحديقة بين قسمي حي الضبيط، وهو من أرقى وأجمل أحياء المدينة، أبنيته بسيطة وأنيقة، وطرقاته واسعةٌ ومزينةٌ أطرافها بالياسمين والبرتقال.
ثُمّ تأخذك طرقاتها إلى المركز الثقافي، ومافيه من فعالياتٍ ونشاطاتٍ على الدوام، بروحِ شبابٍ متحضّر، وشعلة ثقافة لا تنطفئ. ومكتبته الضخمة، التي تضمّ مئات الكتبِ من كل أصنافِ العلوم، تعلقت بها أرواح طلبةِ العلم، فصارت مقصدهم ونقطة التقائهم.
اذهب شمالاً ثم شرقاً لتكمل ما بدأت به، وتمرَّ بالكتلة الطبية، كتلة من العلم المتوقّد، المعوّل عليه بثقل للنهوض بحال المجتمع نحو الأفضل. وحيّ الجامعة، مسكن معظم طلابِ الجامعة.
ثم ينتهي بك المطاف عند مدخل ادلب الشرقي، عند دوار المحراب. لتنهي جولتك فيها، لن تشعر بالتعب أو الملل، ولن تأخذ من وقتك الكثير، نظراً لحجم المدينة، بل ستأخذ من ذاكرتك حيزاً، ومن قلبك حباً.
هذه إدلب، للقاء الأصحاب فيها نكهة خاصة، واجتماع القلوب من شتّى البقاع فيها له حكاية أخرى، تتلخص في الوجوه التي تمر فيها عند كل باب وحيّ، لمّت شمل أمةٍ ضاقت عليها رحاب الأرض، واستقبلت غيرهم مشاعل نور ومنارات علمٍ لتكتب لهم تاريخاً جديداً على أرضٍ رُويت بدماءٍ طاهرة تدافع عنها، وترفع من شأنها.
في إدلب تجد وطناً بلا حدود، وتحيا بشعور العزة والصمود، رغم كل ما تمر به من مِحن، ستبقى حرة أبيّة، تشدك إلها كلما مررت بها، لتتجذر بك وتتجذر بها..
بقلم: عمرو بكور
مجلة أزرق - العدد الثامن
#أدب_الرحلة
0 تعليقات