قاهرة نابليون / عكا
الأيام العادية تمرُّ بشكل بطيء كعجوز تتهادى على الطريق، لكن يوم الثلاثاء ٧ / ٥ من عام ٢٠١٨ هو يومٌ استثنائي بكل ما بدأ فيه، وانتهى إليه
سيظل يوماً محفوراً في قلبي قبل ذاكرتي، أنا التي أعشق البحر عشقاً عذرياً لم نتقابل يوماً لم نلتقي، لم يحتضن جسدي أبداً
كنت قبل شهر من هذا التاريخ قد قدمت طلباً للسماح لي بالذهاب إلى قاهرة نابليون، وكم كنت سعيدة عندما سُمح لي بدخول المناطق التي تقع تحت سيطرة الاحتلال، كان مصرحاً لي البقاء في مناطق ال ٤٨ مدة ٢٣ ساعة فقط.
في اليوم السابق للرحلة قمت بتجهيز حقيبة صغيرة تناسب الرحلات، وضعت فيها بعض الفواكه والمكسرات والعصير.
ولم أنسَ وضع كتاب سقف الكفاية لمحمد علوان في حقيبتي، للأمانة لم أقرأ منه حرفاً كان رفيق سفر فقط، ونجم الصور مع البحر أيضاً، إذ أخذتني المناظر الخلابة التي كنت أمر بها من الكتاب ومن الدنيا بأسرها، كيف لا وأنا التي حلمتُ بهذه الرحلة منذ زمن طويل.
كان التجمع عند الساعة السابعة صباحاً- عند المعبر.
المعبر لمن لا يعرفه هو عبارة عن قفص كبير يحتوي على بوابات إلكترونية يمر منها الفلسطينيون المتوجهين لمناطق ال 48، فيه ممرات تفصلها بوابات وكاميرات مراقبة، وعدد كبير من جنود الصهاينة المسلحين والمتأهبين لأي حادث إرهابي - كما يُسَمّونْ - وطرق محددة تجبرك على السير باتجاه محدد.
بعد أن نمر منها ونلتف عدة مرات يوقفنا الباب الأخير، والذي قبل المرور من خلاله، يجب علينا أن نقف أمام أحد الجنود ليقوم بعمل تدقيق في الهوية وأخذ صور لكل من يمر من خلال البوابة.
تمت كل الأمور على ما يرام وتجمعنا في الساحة حتى وصلت الحافلة التي ستقلنا، ركبناها والفرحة تغمرنا انطلقت الحافلة وانطلقت معها أحلامنا تسابق الريح شوقاً للقاء.
كانت أولى المحطات مدينة أم خالد كما كانت تسمى سابقاً، أو ما يسمى حالياً مدينة نتانيا.
كانت تلك محطة التوقف الأولى حيث بقينا هناك مدة ساعتين تناولنا هناك إفطارنا، بالنسبة لي لم أتحمل رؤية البحر دون الذهاب لرؤيته.
في البداية كنت أقف على منطقة مرتفعة، أقف من خلف سور حديدي أنظر للبحر، أعتقد أن أمواج البحر تقدمت بسرعة عندما سمعت نبض قلبي يناديها.
لم أشعر بنفسي وأنا أنزل ذلك الدرج الخشبي، كانت تملأني لهفة الشوق للقاء الحبيب البعيد.
ركضت حتى وصلتُ لأول موجة، جاءت هي الأخرى مسرعة نحوي وقفت أمامي، توقفت على بعد سنتميترات قليلة مني، اقتربت منها خطوة فعادت خجلة للوراء، وكلما اقتربت تراجعت حتى اندمجت مع البحر.
مرة أخرى نزلت دمعتي أيتركني البحر وأنا التي تملأني اللهفة للقياه، لكني ابتسمت حين رأيت الموج قادم مرة أخرى، ذهبت ونادت أخواتها، وبدأنا نرقص معاً أتراجع خطوة فتتقدم خطوة نحوي ، تتراجع هي فأتقدم أنا.
بقيت هكذا أرقص مع البحر ليغمرني سعادة وفرح، وعندما تعبت من الرقص وأردت أن أرتاح، قدم لي هدية صدفة بلون الكراميل والحليب، انحنيت والتقت واحدة فثانية وهكذا حتى أصبح لدي الكثير الكثير منها.
شكلت أحرف اسمي وتركته للبحر كي يحتضنه، لعبت قفزت ركضت غنيت حتى لم أشعر بالوقت وهو يمضي، كان الشاطئ رملياً تتناثر عليه بعض الصخور البعيدة.
مضى الوقت سريعاً وكان لا بد لنا من متابعة المسير مرة ثانية، وهكذا انطلقت الحافلة تسير في شوارع حيفا.
آه كم هي جميلة، كان التناقض ملفتاً ، إذ قد ترى البيوت القديمة فتعلم أنها لفلسطينيين آثروا البقاء هناك فمنعهم الاحتلال الغاشم من ترميم بيوتهم كنوع من الضغط عليهم للهجرة وترك مكانهم لهم، ثم ترى بيوت حديثة مرممة يسكنها المحتل.
آلمني الوضع رغم سعادتي بأني وصلت لحيفا ودعوت الله أن تعود البلاد لأهلها يوماً.
سارت الحافلة حتى وصلنا لحديقة البهائيين، أن تقف في الأعلى فتشاهد الميناء، وتلة خضراء مليئة بالزهور المتنوعة ، مع
مع مياه وخضرة وسماء زرقاء، ما الذي يحتاجه الانسان غير ذلك؟،.
هو فقط يحتاج الحرية، كل هذا الجمال لا يمكن أن تدخله هكذا بكل بساطة، جنود على البوابة وأجهزة مسح ضوئية، كل هذا لتدخل للقسم الأول من الحديقة فقط، أما ما تبقى فتنظر له من بعيد دون أن تجرأ على الاقتراب، فمن يتجرأ سيجد جنود مسلحين لا يتوانون عن اطلاق الرصاص الحي على من يقترب .
تجولنا في الشوارع قليلا، تناولنا المثلجات وانطلقنا من جديد هذه المرة إلى ميناء عكا.
هل جربتم العشق من أول لقاء، أنا شغفت بعكا منذ وقعت عيناي على سورها، يقف شامخاً قويا ً، دخلنا من البوابة العملاقة، نظرت إلى شوارعها، كانت كقطع من البقلاوة تتراص خلف بعضها جميلة نابضة بالحب
تتسرب إلى أنفك رائحة البحر قوية، تسمع صوت أمواجه من بعيد، أتلفت وأسأل أين البحر؟ لا أجد إجابة فالكل ينظر يمنة ويسرة ويتلفت هنا وهناك، مأخوذ بجمال البيوت القديمة، ينظرون إلى الشبابيك التي تطل منها الزهور وكأنها ترحب بنا، أكمل السير أقف أمام طريقين أحدهما يقود لجامع الجزار والآخر للبحر، وبما أنه كان وقت صلاة العصر، اتجهت للجامع سرت في الطريق، أنظر للمحال التجارية على الجانبين والمطاعم المنتشرة التي تطهو السمك الطازج، كل بأسلوبه وطريقته.
من الجهة الشمالية، وعند الوصول إلى الجامع يُشاهد عند مدخله "سبيل ماء" رممه سليمان باشا، وكان قد أقامه أحمد باشا الجزار. عند الصعود عددًا من الدرجات، يتم دخول المسجد الذي يحتوي على ساحة واسعة بعضها مبلط، كما تحتوي الساحة على أشجار السرو والنخيل العتيق، تم زراعة عدد من الأزهار المتنوعة عند مدخل المسجد، وفي منتصفه.
يتميز جامع الجزار بالقبة الخضراء التي تزينه والتي يمكن للزائر أن يراها من منتصف ساحة المسجد، وبالقرب منها بئر ماء ومزولة من الجهة الغربية، حيث دفن فيها أحمد باشا الجزار وبجانبه خليفته سليمان باشا.
يعتبر مسجد الجزار من أهم المساجد في شمال فلسطين المحتلة، بسبب حجمه والفن المعماري الإسلامي الذي يمتاز به، ويعد تحفة سياحية نادرة، يؤمّه السائحون ليتمتعوا بجمال وعظمة هذا البناء.
بعد التجول في المسجد وأداء صلاة العصر، اتجهت لميناء عكا، كان البحر غاضباً مشعاً يملؤه العنفوان ، أحبه هكذا متمرد غاضب هائج، يضرب الصخر بقوة ، سمعت صوت رجل ينادي جولة في البحر على متن الساحرة، ذهبت باتجاه الصوت وجدتها هناك ترسو بجانب أخواتها، نقدت الرجل أجرة الجولة، وصعدت على ظهر الباخرة المدعوة بالساحرة، أجوب البحر المتوسط، ابتعد عن عكا المدينة لندخل في البحر أكثر.
تميل الباخرة مع الموج وتمخر عباب البحروقفت بالقرب من الحافة انظر للبحر، شعرت بنفسي أحلق عاليا فوق البحر، أشعر بلونه يغمرني وبرائحته تلفني، ساعة كاملة في عرض البحر لا شيء سوى الماء من كل الاتجاهات، أبتعد عن سور عكا، لكنه لا زال شامخاً وسط البحر، كيف لا وهو الذي أحرج نابليون وجيشه وردهم خائبين . كم كان شعوراً رائعاً يغمرني أن أرى البحر في كل مكان، وفي كل اتجاه.
انتهت الجولة، وكم تمنيت أن تطول، سرت بعيداً عن الباخرة، صخور عن يساري وقوارب وسفن على يميني.
اتجهت إلى الصخور، صعدت على صخرة كبيرة وتوجهت بنظري للبحر، ألقي عليه نظرة أخيرة قبل أن أعود لمدينة عكا.
جلست وتحدثت مع البحر دون أن انطق بكلمة
وكأن ردة الفعل الوحيدة التي يبديها هي أمواج تتدافع لتقترب مني ثم تبتعد لأكمل كلاما لم أقله بعد.
لم أشعر بالوقت إلا عندما قطعه صوت صديقتي، وهي تستعجلني للذهاب ثانية للمسجد لأداء صلاة المغرب، ذهبنا وسرنا مجدداً في طرقاتها الضيقة.
بعد الصلاة، جلسنا في أحد المقاهي نتناول وجبة من السمك المشوي الطازج ونستمتع به، شربنا قهوتنا ثم عدنا لنتمشى في الطرق لكن هذه المرة خارجين من المدينة مبتعدين عن عكا وسحرها، خرجنا من البوابة سمعت صوت البحر يناديني مرة أخرى، ركضت باتجاهه اخبرته بأني سأعود حتماً
ركبت الحافلة، وضعت رأسي على النافذة وعدت بخيالي إلى البحر، ورأيت نفسي هناك وأنا أرقص معه، لم أفق من خيالاتي الكثيرة إلا على صوت طرقات ناعمة لقطرات المطر وهي تضرب النافذة، وكأن السماء قررت أن تبكي مكاني فراق عكا وبحرها.
بقلم هيفاء
مجلة أزرق - العدد الثامن
#أدب_الرحلة
1 تعليقات
رائعة... بالتوفيق هيفاء احسنتي��
ردحذف