اعتدت كل يوم أن أجلس على هذا المقعد الخشبي الموجود على أطراف هذه الحديقة، أطالع صحيفة الصباح وقت الظهيرة عند استراحة الغداء، فأنا أفضل أن أتناول شطيرتي وأشرب قهوتي هنا وسط الأشجار الخضراء والأزهار الملونة، هكذا أخفف من ضغط العمل، وكآبة المكان الذي أعمل به.
لم أكن أعط أحداً من الموجودين أيّةُ أهمية، لكنها وحدها لفتت نظري إذ أني أجدها كل يوم تجلس وسط حوض الأزهار تمسك كتاباً بيدها اليسرى وبيدها اليمنى تداعب بتلات الأزهار وكأنها تقص عليهم ما تقرأه في الكتاب، لم أستطع تمييز الكتاب الذي تقرأه لكنها تنظر له وكأنه حبيب لها، يدها لا تترك مداعبة الأزهار إلا عندما ترفع خصلة من شعرها هربت لتلمس وجنتيها.
كانت ترتدي دوماً ثوباً بألوان الربيع الزاهية، يحسبها المار من هنا أنها تمثال حيٌ يجلس بين الأزهار، ترفع نصف شعر من الأمام وتسجنه في ربطة شعر على شكل وردة من الأقحوان.
تبقى هناك وسط أزهارها تقرأ وتقرأ لا ترفع رأسها عن الكتاب إلا لتريح رقبتها من طول الانحاء على أوراق الكتاب، تجول ببصرها على الحديقة كلها وكأنها تطمئن على وجود الأزهار والأشجار كلٌ في مكانه وتعود بعدها لمواصة قراءتها.
تنتهي ساعة الغداء وأنهض لأعود لعملي تنهض هي أيضاً، وتغادر بصمت كصمت الأزهار، بقيتُ على هذه الحال شهراً كاملاً أراقبها من بعيد، لم أعد أقرأ الصحيفة، بل كنت أتظاهر بذلك أنظر لها وهي تداعب أزهارها وتمسك كتابها.
اليوم قررت أن أذهب لأحادثها، نعم مهما يحصل سأتحدث معها، حانت ساعة الغداء توجهت مباشرة لمكان جلوسها، وقفت خلفها يفصلني عنها حوض الأزهار الدائري والتي تتوسطه هي، وبصوتٍ يغلبه التردد قلت لها:
كيف للأزهار أن تتحمل وجود زهرة أجمل منها من دم ولحم تجلس وسطها، تقرأ لها كلمات بشرية؟
دون أن تلتفت لي قالت:
أنت صاحب الصحيفة أليس كذلك؟ تجلس على المقعد البعيد تشرب قهوتك وتقرأ صحيفتك؟ ترتدي كل يوم زياً رسمياً باللون الأسود ما عدا يوم الخميس ترتدي بنطالاً من الجينز الغامق مع تيشيرت خفيف، تعمل في الشؤون الإدارية، تتناول كل يوم شطيرة من الأفوكادو وحبة من الفاكهة مع فنجان قهوة تتركه للنهاية، هل من أخبار جديدة في صحيفتك أم أنها الأخبار ذاتها ؟
بقيت واقفاً متسمراً مكاني لا أقوى على قول شيء.
التفتت إلي نصف التفاتة وقالت والابتسامة تعلو شفتيها:
_ لا تخف العصفورة قالت لي، بالمناسبة اسمي ماسة وأنت أيمن أليس كذلك؟
_ يبدو أن العصفورة تخبرك الكثير.
_ نعم، هي والفراشات لا يخفون عني أي شيء، خاصة إن كان يمس الحديقة
_ هل هي لك ؟ الحديقة أقصد ؟
_ لا بالطبع .. هي ملك للناس جميعاً
_ لم تجلسين وسط الأزهار؟ هذا ممنوع، قد يفعل أحد من الصغار مثلك ويؤذي الأزهار
_ لا تخف لن يفعلوا، هذا المكان مخصص لي وحدي
_ ماذا تقرأين؟
_ وهل يفيدك بشيْ إن عرفت ما أقرأ؟
مجرد فضول _
لا تدعه يطغى. قد يؤذيك _
_هل أنت قلقة عليّ أم هو خوفٌ من أن أعرف اسم الكتاب؟
_ لا تقلق لن تعرفه حتى لو أعطيتك إياه وقرأته، هو كتاب أخذته من مقبرة الكتب المنسية لكاتب كتبه ولم ينشره، تلك المقبرة التي ألفها كارلوس زافون هل تعرفه ؟ أحضرت الكتاب من هناك من تلك المقبرة ؟
لكنها رواية ورقية وما فيها محض خيال. _
_ وما أدراك؟ قد تكون حقيقة وموجودة؟ كيف إذن أحضرتِ هذا الكتاب ؟
_ أنتِ حقاً غريبة ؟؟
_ لست كذلك ؟ قد تكون أنت الغريب لا أنا؟
_ كيف ذلك ؟
_ لا تهتم. قالت كلمتها و نهضت من مكانها تحتضن كتابها وسارت بهدوء وخفة إلى أن غادرت الحديقة
لست أدري ما الذي جعلني أقف مكاني لا أتحرك، لم اتبعها لأعرف من هي ولم
أحرك ساكناً، لم يخرج صوتي عند محاولتي مناداتها، وكأن الأرض ثبتتني إليها فلم أعد أتحرك ؟
اختفت من أمامي وبصري ما زال معلقاً بها، يتردد صوتها في قلبي مثل: سمفونية.
جاء اليوم التالي سار فيه الوقت على مهل، كنت أنتظر وقت استراحة الغداء لأحادثها مرة أخرى.
نزلت باتجاه الحديقة يسابقني قلبي للقياها، عندما وصلت لم تكن هناك، أين هي؟ ولِمَ لم تأتي؟ هل أزعجتها، بجرأتي على الحديث معها ؟
دارت أسئلة كثيرة برأسي ولم أستطع أن أجد إجابة واحدة.
مرت أيام وأسابيع وأنا أذهب لحوض الأزهار وأبحث عنها في كل أرجاء الحديقة ولكنها لم تكن تأتي، ألا تخبرها العصفورة أني أنتظرها كل يوم هنا؟ أم أن العصافير أصبحت عمياء لا ترى، وبكماء لا تتحدث.
أنا صالح شاب في منتصف العشرينات تجري الكتابة في دمي مجرى الدم، تستهويني حياة البشر المارين أمامي، كل منهم يحمل قصتة وحكايته، منها ما يملؤها الأمل ومنها من غرقت في الحزن والكدر.
ما يلفتني أكثر اولئك الذين لا يتحدثون أبداً الذي يمرون بنا كل يوم ولا يدركون أننا نراقبهم كما يراقبون غيرهم.
أسكن في الجهة المقابلة لمبنى مهجور كان فيما مضى ملكاً لشركة تجارية أعلنت إفلاسها منذ زمن، يقع خلف البناية التي أسكنها يفصل بيننا حديقة مهجورة، ماتت كل أزهارها وبقيت أشجارها صامدة لتصبح مرتعاً للعصافير والقطط الضالة.
منذ فترة لفت نظري وأنا أطل من شباك غرفتي رجلا في أواخر الثلاثينات من العمر يجلس كل يوم يحمل كوب قهوة وشطيرة وصحيفة، يجلس على مقعد مهترئ ينظر إلى حوض أزهار فارغ لا شيء فيه سوى بقايا أزهار جافة.
فاجأني يوما بنهوضه من مكانه ووقوفه أمام الحوض وبدأ يتحدث مع الحوض الفارغ، وبعدها بفترة لا بأس بها راح ينظر في الفراغ أمامه وعلامات الدهشة تبدو عليه، ما أثار ريبتي أكثر عودته كل يوم يقف عند نفس الحوض يبحث عن شيء ما، ويتلفت أحياناً للعصافير الموجودة هناك ويحدثها.
قررت اليوم أن أزور الحديقة وأبدأ في كتابة قصة جديدة سأستلهم أحداثها من حوار سأجريه من هذا الغريب، انتظرت حتى أتى كعادته، حملت أقلامي ودفتري وتوجهت للحديقة، عندما وصلت للحديقة لم أجده هناك، بحثت عنه لكنه لم يكن موجوداً اتجهت إلى المقعد الذي كان يجلس عليه لانتظاره.
مسكت قلمي ودفتري وبدأت بالكتابة جاءتني خيالات غريبة وكأني أرى حكاية تدور أحداثها أمامي، لم أشعر بنفسي وبدأت أكتب
(اعتدت كل يوم أن أجلس على هذا المقعد الخشبي الموجود على أطراف هذه الحديقة، أطالع صحيفة الصباح وقت الظهيرة عند استراحة الغداء، فأنا أفضل أن أتناول شطيرتي وأشرب قهوتي هنا وسط الأشجار الخضراء والأزهار الملونة، هكذا أخفف من ضغط العمل، وكآبة المكان الذي أعمل به....)
لم أشعر بنفسي وأنا أكتب، مضى النهار وأتى الليل وأنا لم أرفع راسي عن الورق، حتى شعرت بيد تلامس كتفي وصوت أنثوي يقول لي:
_ ألم تتعب من الكتابة يا صالح؟ جاء الليل اذهب لبيتك؟
_ التفتُ لمصدر الصوت كانت فتاة ترتدي فستانا بلون الربيع شعرها كستنائي اللون تمسك كتاباً بيدها اليسرى تنظر لي مبتسمة
_ من أنتِ؟ ومن أين أتيتِ؟
_ أنا ماسة
_ من؟ نظرت للأوراق أمامي والتفت إليها فلم أجدها
_ وقفت أبحث عنها كالمجنون ؟ كيف يحصل ذلك؟ ناديتها باسمها فلم تسمعني
_ صالح، صالح ... ماذا تفعل هنا يا أخي ألم يخبرك الطبيب أن تتناول دواءك بانتظام وإلا ستعود لحالتك السابقة؟!!
_ ألم تشاهديها ؟؟
_ من ؟
_ ماسة !! من ماسة ؟؟
_لا تشغلي بالك أبداً ، كل ما في الأمر أني اندمجت في الكتابة قليلا، لنعد للبيت الآن .
بقلم: هيفاء
0 تعليقات