الرّمزية في شعر محمود درويش



تنوَّعت مذاهب الشّعر العربيّ تنوعًا تدريجيًا ملحوظًا،
ولعلّ أبرزها وأجملها وأقواها بين المذاهب الأدبيَّة والعالميَّة كان المذهب الرَّمزي الَّذي ظهر في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر، وتحديدًا في العام 1886 م، بعد أن أصدر عدّة كُتّاب فرنسيون بيانًا يعلن ميلاد المذهب الرّمزي.
وقد عُرفَ هؤلاء الكُتّاب بالأدباء الغامضين.
أمّا في الشِّعر العربيِّ الحديث، فقد كثُر هذا المذهب في شعر محمود درويش. وأخصّ درويش لأنّني أجدُ في رمزه إيحاءً وسحرًا عميقًا لم أجده في غيره.
لكنَّ الرّمز لم يكن حكرًا عليه فقط وإنّما كان حكاية كثيرٍ من الشّعراء والأدباء، خاصَّة شعراء لبنان، إذ استخدموه كثيرًا في الوصف لتقصير الجمل وإيصال المعنى بطرق مختلفة مبنيَّة على الخيال المجنَّح البعيدِ عن عالم الواقع.
فالرّمز في اللُّغة هو الإشارة أو التَّلميح،
والإشارة تشمل أيّ صورة سواء بالكلام غير المباشر أو الإيحاء،
بتبسيطٍ أكثر، هو يعني جعل العبارة مؤشرًا على دلالة محذوفة يقوم الرّمز نيابةً عنها.
فالرّمزية من الأساليب المقصودة لطبقة معينة في مجتمع القرَّاء، أولئك الَّذين يفضِّلون الغوص في عمق الحرف، ويحلّلون غموض الكلمة ليصطادوا قَصد الشاعر وإيحاءه بسيف بحثهم، والذين يعنيهم العمق أيّما عناية.
وقد وضَّح محمود درويش ذلك حين قال:
" إن اختلاف الطَّرفين، الشاعر والمتلقي، هو في حقيقته إتلاف، ولكنَّه إتلاف يقتضي من المتلقي أن يكون خلاقًا هو أيضًا"
وكان من أبرز سمات هذا المذهب السحرّي، اكتفاء الشَّاعر بالتَّلميح عن الأشياء والاهتمام بالموسيقى المحرَّرة من الأوزان التقليديَّة، ويقوم على وحدة الإحساس والنَّغم واندماجها ببعضها.
ففي قصيدة محمود درويش (يطير الحمام) يوظِّف الشَّاعر الحمام ليرمز إلى السَّلام المفقود في وطنه وفي نفسه، فيقول:
" يطير الحمام،
يحطُّ الحمام.
أعدِّي لي الأرض كي أستريح،
فإنّي أحبكِ حتّى التَّعب.
صباحُكِ فاكهةٌ للأغاني،
وهذا المساء ذهب.
أنا لِحبيبي، وحبيبي لنجمته الشَّاردة.
وندخل في الحلم، لكنَّه يتباطأ كي لا نراه.
وحين ينام حبيبي، أصحو لكي أحرس
الحلم مما يراه.
يطيـر الحمام . "
فالحمام الَّذي يطير ويحطُّ، ويطير ويحطُّ، هو حلم السَّلام الذي يراود الشاعر وحبيبته،
والَّذي يضيء وينطفئ في حياة شعبه المنتظر هذا السَّلام المتأرجح بين الأرض والسّماء. حتّى يعود إلى وطنه، وينتهي كابوس الاحتلال.
أمّا عن قصيدته (بيـروت)، فلعلّها من أكثر قصائده رموزًا وإيماءً، والَّتي قد لا تنكشف لنا من القراءة الأولى، إنّما تحتاج إلى وقفة تأمل طويلة، وتحليل عميق، لمعرفة صورها المتشابكة والمترابطة، إذ يقول في مطلعها:
" بيــروت
تفاحةٌ للبحـر، نرجسةُ الرّخام.
فراشةٌ فجريّة بيروت، شكل الرّوح
في المرأة.
بيروت من تعبٍ، ومن ذهب، وأندلس، وشام.
فضة زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام.
لم أسمع دمي من قبل ينطلق باسم عاشقة.
تنام على دمي،
وتنــام. "
فإذا ما أمعنَّا النَّظر، وأكثرنا التَّدقيق والتَّأمل، سنجد أنَّ درويش يستحضر في هذه الصُّور صراع بيروت ما بين الفناء والبقاء، صراع الحبّ، صراع الحياة والموت.
فصُور التُّفاحة والنِّرجسة، الفراشة والحمام، كلّها رموزٌ للبقاء والحبّ.
ولذلك نرى أنّ الرّمز فنُّ إبداعيٌّ يحتاج إلى مبدع يوظِّف كلماته وأحرفه في صورٍ فنِّيَّة عميقة،
قابلة لتحليل جوهرها، ومضمونها، وعمقها، تحليلًا منطقيًا يستدعي الاندهاش والانبهار،
ومحمود درويش كان خير من وظف هذا المذهب الأدبيّ في شعره.
وكأنّه كان يصفُ نفسه حين قال:
" ثمّة قلّة قليلة من المبدعين لا يغيبون، ولا يمكننا نسيانهم، كأنّهم عَصِيُّون على النسيان. بل أكاد أقول: نحن لا نستطيع تجاهلهم حتّى لو أردنا.
ذلك لأنّ منجزهم الإبداعيّ أقوى حضورًا، وأعمق أثرًا. "

بقلم: رشا علي

إرسال تعليق

1 تعليقات