ليتها كانت هناك !






كنتُ شاردةً ذاتَ مرَّة، أمشي وأكادُ أهوي من فرطِ وهني، تعصفُ الأفكار برأسي كما تعصفُ الريح أمامي تماماً، حتى سمعت تلك الكلمات التي أحدثت وقعاً موسيقياً يصعب على الأذن تحمُّله لشدَّة رقتهِ وعذوبته.
راحت هذه الطفلة تشقُّ طريقها إلى جوف قلبي بينما تتزاحمُ براءتها مع كلماتها أيّهما ستحتلُّ عقلي أولاً.
ضعتُ قليلاً بتفاصيلها، وأخيراً فتحت فمي كطفلةٍ تستصعبُ نطق أحرفها الأولى،
وقلت: ما اسمُكِ يا حلوتي؟

لم تُبدِ ردَّاً يناسبُ السؤال، وتابعت مع نغمٍ ضعيفٍ وهي تُردِّد:
البردُ يحيطُ بطفلتنا...
والبيتُ بعيدٌ عن يدِنا..

كانت تلكَ كلماتٌ من أغنية بائعة الكبريت لكنَّها حلَّت عليَّ كوقعِ صاعقة، فما كان منِّي إلَّا أن أمسكَ بيد تلكَ الزَّهرة الماثلة أمامي ساحبةً إيَّاها إلى أن وجدنا مقعداً على حرفِ الرَّصيف، جلستُ واضعةً إيَّاها في حضني وهي تنظرُ إليَّ ببراءةٍ تعتليها دموعٌ تقفُ على عتَباتِ أعينها، متردِّدَةً في أيِّ ثانيةٍ ستتجرَّأُ وتسقط، كانت تنظرُ إليَّ بنوعٍ من الغرابة وأنا أبادلها النَّظرةَ ذاتها، ومن ثمَّ بدأت أتسلَّلُ من ذبول رمشيها إلى ضعف عينيها حتى وصلتُ بجولتي إلى زمنٍ بعيد، حيثُ البراءةُ لها نظرتها، والحقد يظهر بوضوحٍ لا يتخفَّى ويجعل من الأعماق مقرَّاً للسواد.

_ربما كانت أفضل حالاً لو كان باستطاعتها أن تنهي تشرُّدها في صحبةِ العمِّ فيتالس.
_أو أن تكون مع روميو ورفاقه، وتستبدل غناءها وشرودها هنا، بالغناءِ فوق المداخن والتَّمعنِ في سماء باريس.
_ماذا لو أنها كانت في ذاك الزمان لتخفي حديقتها السرية عن أنظارِ الجميع.

_ليتها كانت هناك !
حيثُ النهاياتُ دائماً سعيدة، تقضي على ما سبقها من ألمٍ ومعاناة.
_ليتها كإيميلي، تسكن في قريةٍ بسيطةٍ تكتبُ ما تريدُه من حبرٍ على ورق، والجميع يُنصِت لها عند قراءته، لن تكون كلماتها مختزنة في كتبٍ تُستعمل كزينةٍ للرفوف كما هو الحال في حاضرنا!
_ليتها هناك!

_هناك حيثُ الكتب لها حقَّها في أن تُقرَأ، لا أن يتعالى فوقها طبقاتٌ من الغبارِ السميك حتى تُمسي بالية ويُرمى بها بعيداً.
حيثُ الحقيقةُ هي الحقيقة..
والكذبُ هو الكذب..
وكلّ شيءٍ واضحٌ لا كدرَ فيه

_حيثُ الأطفال..
الأطفال!
كم تُخفي هذه الكلمة من معاناةٍ خلف براءتها؟
كم تحتوي على أبعادٍ لا يستطيعُ الكلُّ أن يلمحها لشدَّةِ شفافيتها ورقَّتِها؟

هطلَ المطرُ بشدَّةٍ ليعيدني إلى واقعي في الحاضر هذا!
رأيتُ الطِّفلة نائمة كالملاك، وهذا يعني أنَّ اللقاء قدِ انتهى قبلَ بدايته.
عليَّ أن أدعها تأخذَ قسطاً من الرَّاحة قبل سماعيَ لقصَّتها ، عليَّ أن أبقى صامتة!!

_صمتٌ، صمتٌ، لكن صوتٌ جاء ينادي
كبريتٌ كبريت...
كبريتٌ كبريت...





سلام الخطيب .


إرسال تعليق

0 تعليقات