غاصَتِ الشَّمسُ في مغربِها لتُعلنَ عن ليلةٍ هادئةٍ، أخرسَتْ ضجيجَ الحياةِ، وأرخَتْ زراعيها لرؤوسِ المتعبينَ، كانَ الهدوءُ مسيطراً، وكانَ البدرُ يتربَّعُ في كَبِدِ السَّماءِ، وينثرُ ضوءَهُ على التِّلالِ ويتسلَّلُ مِنَ النَّوافذِ، لعلَّه يُضيءُ النُّفوسَ المظلمةَ، لكن هيهات للنفوسِ المتعبةِ أنْ تُضاءَ.
كانت سعادُ كعادتِها تجلسُ في ركنِ المنزلِ، تغسلُ بالدُّموعِ وجنتيها، حتَّى كادت تلكَ الدُّموع أنْ تَجفَّ ،وكانَ الأطفالُ الثَّلاثة، غارقينَ في النَّوم، ووجوهَهُم الصَّفراء تفسِّرُ دموعَ والدتهم، وفي أعلى الجدارِ كان مخزونٌ مِنَ الألمِ كفيلاً بإبكائِها حتَّى المَماتِ، كانَ عامرُ يقطنُ في صورتِه بلا حراكٍ، وبجانبِهِ فتاةٌ في ربيعِ العمرِ، تفصحُ ابتسامتها عن عقدٍ مِنَ اللؤلؤِ، ويداعبُ الهواءُ خصلاتِ شعرِها الذَّهبيَّةِ، وتمسكُ بيدِ عامرٍ، وكأنَّهُ آخرَ ماتبقى لها مِنَ الدُّنيا، وتبادلهُ النَّظرات لترديهِ قتيلاً أمامَ عينيها السَّوداوتين.
أمَّا ذلكَ المسكينُ فيبدو أسيرَ الحيرةِ، أيُفتنُ ببياضِ الوجهِ أم بسوادِ العينينِ، أم بحُمرةِ الوجنتينِ، كانت الصُّورةُ قبلَ عشرةِ أعوامٍ، كانت الرَّشاقةُ ملازمةً لسعادِ، أمَّا الأمُّ فيديها النَّاعمتينِ أصبحتْ بخشونةِ الحياةِ، وبياضُ الوجهِ أصبحَ كسوادِها، وكادتْ عينيها أن تبيضَّ لكثرةِ البُكاءِ، هكذا الحروبُ، الخاسرُ الأوَّلُ فيها المسالمينَ، وهذا عامرُ وقعَ ضحيةَ حربٍ لَمْ يَكنْ أحد أطرافها، كانت أجرتهُ البسيطة بعدَ عملٍ شاقٍ أسمى ما يرجوهُ، وابتسامةُ حنينٍ عندما ما يُعطيها قطعتَها اليوميَّة مِنَ الشُّوكولا، تغنيهِ عَنِ الدُّنيا بأسرِها، وكذلكَ ضِحكةُ حَسن عندما يأخذُ نصيبَهُ مِنها، لكنْ ذاتُ الحظِّ السَّيءِ لُجين لَمْ ترَهُ عيناها، كانتْ أشهرُها الأخيرة في بطنِ والدتِها عندما زُلزِلَ البيتُ بخبرِ استشهادِ عامرٍ، لَمْ يكنْ عامرُ محارباً، بلْ كانَ عاملاً بسيطاً أصابتْهُ رصاصةَ حاقدٍ غادرةٍ، استقرَّتْ في جبينِهِ عندَ عودتِهِ مِنَ العملِ، وانتثرَتْ مِنْ يدهِ حبَّاتُ الشُّوكولا، وحبَّاتُ السَّكاكرِ الَّتي كان يَحملُها لسعادٍ يوميَّاً، وانتثرَتْ معَ تلكَ الحبَّاتِ حياةُ عائلةٍ كاملةٍ، وانتهَتْ قصةُ أملٍ، وخيَّمَ اليأسُ على ذلكَ المنزلِ، ليُظْلَمُ بشكلٍ كاملٍ كأعماقِ البحارِ، ويبقى ذلكَ المنزلُ قصةُ ألمٍ يتناقلُها الأجيالُ، ومضربُ مثلٍ لتخفيفِ النَّائباتِ العِظامِ.
( *طائرُ الأحزانِ*)
محمود الحسن
0 تعليقات