لا تَدَعينا للنسيان










بينما كنتُ أُمارِسُ طقوسَ استيقاظي في ارتشاف قهوتي بِهدوء بدأتُ أسمعُ أصواتاً غريبة غريبة، أو هكذا خُيِّلَ إليّ!





فزِعتُ في البداية لأنَّه ما مِن أحدٍ في الغرفةِ سِواي





ولكنَّ شيئاً ما في قلبي أرشَدني لتمييز تلك الأصوات ومعرِفةِ ماهيَّتِها





أغمضتُ عينيَّ وبدأتُ برحلةِ الإنصاتِ ممتطية خيالي





تهادى إلى أُذُني في بادئ الأمر صُراخٌ لِطفل وبكاءٌ مرير





رقَّ قلبي ودمَعَت عيناي





لَمحتُ وجهَ الطفل الباكي ، كان نحيلاً جداً تكاد عِظامهُ تبرُزُ من فتحاتِ ملابِسهِ الممزَّقة





كانَ يحمِلُ على ظهرِه أكواماً من القهرِ وفي صدرِه مدينةٌ من دمار





حاولتُ الاقترابَ منهُ علَّني أمدُّه بعضاً من العطفِ والمواساة ، ورغيفاً من الخبز!





نظرَ إليَّ بعينَين مختنقتين من اللوم والعِتاب





وحرَّك شفتَيه المُتشقِّقَتَينِ من الجفافِ هامِساً : "أرجوكِ لا تدَعينا لِلنسيان !"





حاولتُ قولَ شيءٍ ولكن انبِثاقَ كلِّ تلكَ الوجوهِ البائسةِ في وجهي أفزعَني حدَّ نِسياني لِلكلمات





حاصرَتني تلك الوجوه ، عاتبَتني ومزَّقت قلبي النَّازفِ ألماً من ملامِحهم الفاقِدةِ للحياة





نطَقت جميعُها بصوتٍ واحِدٍ يشوبُه الانكِسار





"لا تَدَعينا لِلنسيان !"





وبلمحِ البصر شقوا أجسادهم المُتلاصِقةِ ببعضِها وأفسحوا لي عن طريقٍ طويل





مَشيتُ فيه بخطأ متوتِّرةٍ بطيئةٍ أكادُ أجرُّ قدميَّ جرّاً لِأسير





وهم على جانِبَيِّ الطريق وكأنهم أشجارٌ هرِمة مُتآكِلة مُحدِّقين بِذاتِ النظرات





قلبي كان يرتجِف ذُعراً ولا أعلم بعد كيف لم يتوقَّف حينها





وكأنَّ الموت كان يرفُضُ زيارتي ويرفُض وجودي





شعرتُ بأني أمشي على طريقِه ليس إلا!





نظرتُ أمامي فتراءَت لي مئذَنةٌ حطَّمتها براميلُ موتٍ في وطني





عاتَبتني هي الأخرى وقالت "لا تترُكي مئذنةً حُرِمت من نشرِ نِداءِ الله في الأرجاء لِلنسيان"





ومدرَسَة فارِغةٌ من كلِّ شيءٍ سِوى أكوامِ الأحجارِ وبقايا أرواحٍ دُفِنت تحت الأنقاض ...





توسَّلَت هي الأخرى "لا تتركيني لِلنسيان"





مُصحفٌ مُلقى هُناك فوقَ بابٍ مكسورٌ ممدودٌ بعضُه على الأرض





أخبرني بأنَّ شيخاً عجوزاً لم يكُن يَتركُه من بينِ يديه ، حالَت بينهما رصاصةٌ غادِرةٌ وقذيفة





جعلت من الشيخِ دفينا تحتَ الباب وأنا فوقَه، لن تجِدي جُثَّته لرُبَّما تعفَّنت،





لكنَّ روحَه تنظُر إليَّ بغضبِ كيف لم ينتشِلني أحدٌ حتى الآن،  انتشِليني لِترقُد روحهُ الطَّاهِرة بسلام ولا تتركِينا لِلنسيان





احتَضَنتُه بصدري بقُوةٍ لا أعلم ما الذي باستِطاعتي فعله كي اُرضيهِم





بدأتُ أبكي بنشيجٍ وأشهقُ وأصرخ





ماذا تُراني فاعِلة؟





وقف الوطنُ أمامي قويّاً شامِخاً رُغمَ جِراحِه وصرخاتِ نزيفه الدامي





أخبرني عن مئذنةٍ فقدت صوتها لِلأذان ، وعن كنيسَةٍ تبعثرَت أجراسُها تحت المباني المدمَّرة





أشار إلى صدرِه كاشِفاً عن صرخاتِ أمهاتٍ فقدنَ أبناءهُن





وأطفالٍ ما عاد بالعالمِ شيءٌ يثيرُ رغبتهُم الطفوليَّة لِلعب ، أخبرني أنهم كبِروا بلمحِ بصر





بِضعُ رصاصاتٍ قرّروا يُتمَهم وتشرُّدَهم ، وكبِروا!.





بجِراحِهم وبأزهارِ ياسمين ذابِلةٍ مُمزَّقةٍ لوَّحوا لي وحركوا شفاهَهم الجائعة





"لا تترُكينا لِلنسيان"





قبلَ أن أعودَ لبكائي





أفصَح لي الوطنُ عن أمانةٍ تركتُها قبل منفاي





روحُكِ مازالَت تسرَحُ داخِلي وتعيش، إنها بأمان





لا تقلَقي ...لَمعَت بِعينيَّ نظرَةُ شكر واطمئنان ، وما أن لمحتُ تلك الوجوه حتى عُدتُ للبكاء





كانت الصَّدمةَ التي أفقدَتني صوابي هي أنَّ كلَّ تلكَ الوجوه فقدَت الحياةَ ذاتَ حربٍ مُستمِرَّة حتى الآن





وأنَّ ذاكَ الطفل الذي مدَدتهُ بِرغيفِ خبزٍ لم يعُد يقيده الخبز شيئاً





لوَّحَ لي بِرغيفِه وقال " ماذا يفيدُ رغيفُكِ روحاً زُهِقَت ظُلماً وطارت إلى الجِنانِ تشكي لِخالِقها ماذا فعل بها الأرذال





رغيفُكِ هذا دعيهِ قلماً واكتبينا شِعراً أو قصيدةً ترتجِف بها القلوب فتهِبُّ لِنصرَةِ ذوينا الواقِفين على حِيازِ الموت





هُناك في الوطنِ جميعُهم ينتئون ويصرخون





اجعلي رغيفَكِ قلماً واكتبيهِم روايةً تتقطَّعُ بها قلوبُ المُتخاذِلين





اكتبيهِم قصاصاتِ جُملٍ تنهرُ قلوبَ القاتِلين وتهُزَّ أورِدتهم بِعاصِفةٍ من ذعرٍ تُذكِّرهم بأنَّ الله يمُدُّ لِلظالمين





اكتبيهِم كيفما شئتِ ولا تنسِنا كما نسِيَهُم النَّاسين





اذكُري أرواحاً باتَت أجسادُها تنزِفُ دماً طاهِرا تواسي به الوطنَ وتُطهِّرُ آثارَ أقدام القتَلةِ والفاسِدين





لا تنسِنا أذكرينا فجميعُنا يحتاج من يتذكَّره"





استفَقتُ من رِحلتي القاسِية وتذكَّرتُ أنَّ أحدهُم أخبرني بأنَّ كلماتي مُتشابِهةً في الشوقِ والحنين والأسى





والوطنُ في كلِّ قصيدةٍ أو نثرٍ أو خاطِرةٍ يحتلُّ مكانهُ في الصَّدارة





فكَّرتُ ملِيّاً بكلِماته وقرَّرتُ بأن أكتُبَ شيئاً جديداً علَّني أنجحُ بأن أكونَ كاتِبةً تحتضِنُ جميع أشكالِ المعاني





نسَجتُ قِصَّة حبٍّ جميل وأخرى انتهَت بِفراقٍ أليم ، أعجبَت القُرَّاء وصفَّق لي الجميع





ولكنَّ الوطن بِداخلي يئنُّ وأصواتُ البائسين تعلو وتعلو كلَّما أعرضتُ عنهُم كلماتي





"لا تنسِنا، اذكُرينا"





كبُر الصراعُ داخلي وهتفتُ بصوتٍ محموم:





ألا يكفي بأني مِلتُ عنهم بالرحيل وعن الوطن بالمنفى؟





لِذا سأستمِعُ لهم فقط ، خيالاتُ أمواتِ وطني الرَّاحِلون والباقون





سأُلبي نِداء الوطنِ الذي رُغمَ ابتِعادي عنه ظلَّ مُحتفظاً بروحي التي أبت أن تُغادِره،





سألبي نِداء ذاكَ المُصحف المتروك على حافة الخراب،





سأذكُركُم فأنتم أَولى بِذِكري من قِصَّةِ حبٍّ من خيالي تلعَبُ وتمرَحُ على حافَّة الألم.





مياس وليد عرفة





.


إرسال تعليق

5 تعليقات

  1. ابتسام الاحمر14 يونيو 2020 في 12:38 م

    جميلة جدا

    ردحذف
  2. كلمات اخترقت الذاكرة وستبقى عالقة بها ،، أبدعت مياس

    ردحذف
  3. مقال جميل جدا شكرا لكم

    ردحذف
  4. مبدعه مياس احساس وطني رائع

    ردحذف