تحمل يا قلبي | ياسمين الشاعر



إلى كلِّ شخصٍ لامسَ جوانبَ الحُبِّ ، إلى كلِّ شخصٍ تصادَفَ مع قواعد العشقِ الأربعين


مقدِّمة :

ويا ليت الوقتَ الَّذي عشناه في ماضينا يصبحُ علاجاً لهذا الاشتياق الَّذي أصابني من بعدك ، حروف متضادَّة ولحظات شرود حقيقيَّة وعجز معمَّق ، كل هذا أصابني فاخترتُ الكتابة لتدوينِ تفاصيل قصَّتنا لكي لا أنسى جرعةَ الحُبِّ الَّتي أدمنتُها .. فلتنعمي بالرَّاحة فإنَّك على أجملِ مكانٍ في الأرض ... دمت بخير

ها أنا أتابعُ مسيرتي من السِّجن .. حُكِم عليَّ بخمسِ سنواتٍ في ذلك اليوم كعقابٍ على جريمتي ولكن هذا العقاب لم يكن جزاءً لي فقط فلقد كان أزمة نفسيَّة لحبيبتي أيضاً ، مرَّت سنتَين وأنا حبيس لمشاعري وأفكاري وبالتَّأكيد لحرِّيَّتي .. سُجِنتُ هنا لأنَّني دافعتُ عن شرفِ حبيبتي الَّذي يعتبر شرفي أنا أيضاً ، لم يكن لديّ نيَّة في قتلِ ذلك القذر وتلطيخ يداي بدمائه ، ولكن ما عساي أنْ أفعلَ ونار الغيرة تحرق قلبي ، فسقط من يداي ويضرب رأسه بالأرض .. لهذا السَّبب أنا هنا .. أعيشُ في زنزانةٍ مع صديقَين لي ، تعرَّفت عليهِما هُنا ، الأوَّل انتحرت زوجته بعد دخوله السِّجنَ تاركةً له رسالة ، والثَّاني كان وحيداً مع ذاته تعرَّفتُ عليه أكثر من خلال كتابته اليوميَّة ، غير هذا فإنَّ الحياةَ لا تكفُّ على تجهيزِ مفاجأة لنا ، فحملَت البارحة خبر وفاة أمِّي ، الأرملة الَّتي تركتها تواجهُ الدَّهرَ بلا رحيمٍ ، لم أستطعْ الذَّهابَ في جنازةِ أبي قبل السَّبع سنوات لأنَّني كنتُ مقيَّداً بالخدمة العسكريَّة والآن لأنَّني مقيَّدٌ بذنوبٍ لا تُغفَر .

انصدمتُ ورجعتُ بذاكرتي إلى 6 سنوات ... 26 مارس 2014 ... مدينة القدس ، قلب العالم بأسره ، مسقط رأسي ورؤساء الشُّجعان ، اسمي كاظم العمَّار .. الولد الوحيد والمدلَّل لعائلتي .. الآن أنا ضمن الخدمة العسكريَّة أؤدِّي واجبي الوطنيّ فداءً لهذه الأرض الطيِّبة الَّتي تنجب أبطالاً يحضنونها أوقات الشِّدَّة كأوَّل مرَّةٍ تحضن فيها الأمُّ رضيعها ، كانت الأيَّام في الخدمة العسكريَّة على حالها عمل وروتين ، إذ أنِّي لا أذكرُ الفرقَ بين اليوم والأمس والغد إلى أنْ شاءَت أنْ تميَّز هذه الرَّتابة بخبر وفاة أبي ، فقدان شخص عزيز أمر في غاية الصُّعوبة رغم أنَّ الموتَ هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة ، لكن ما كسر قلبي حقّاً هو الوقت والمكان اللَّذان لا يسمحان لي بالذَّهابِ لجنازته ، حملتُ في قلبي حزن موت أبي ذراعي الأيمن ، و همّ أمِّي الأرملة الوحيدة المرتدية الثَّوب الأبيض واقفة على شرفتنا تتأمَّل في نعشِ أبي ، خضتُ معركة داخلي في دقائق عدَّة ، أحسستُ بشللٍ يتطفَّل على أعضاءِ قلبي يضيق بي شيئاً فشيئاً ... هل تعرفون شعور أنْ ينزفَ قلبك ولا تواسيك دمعة ؟

رغم تلك المشاعر الَّتي تدفَّقت داخلي في تلك الفترة إلَّا أنَّني استطعت إنهاء عملي في الخدمة العسكريَّة ، وظننتُ أنَّ بعد كلِّ هذا الغياب سأعودُ حقّاً إلى حضنِ والدتي .. لا الكلمات ولا الجمل قادرة على وصف تلك الأيَّام والسَّاعات الَّتي مرَّت بدون حنانها ولا دفئها .. ولكن في هذه الفترة ساءت الأوضاع سياسيّاً في البلاد وما عليَّ سِوى الوفاءِ لوطني ، هذا ما جعل القوات المسلَّحة تأخذُ بنا إلى أحياءِ المدينة وتفرِّقنا لحماية السُّكان فنحن نعدُّ الآن أبناء تلك الأرض الطيَّبة .

شارع الكستناء ... القدس الشَّريفة (24 أبريل 2015)

أصبحتُ الجنديّ كاظم العمَّار المعروف في الحيِّ وصديق الكبير والصَّغير ، حتَّى وإنْ كنتُ ما أفعله سِوى عملي فهم يعتبرونني الجدار الَّذي يحميهم من كلِّ ضررٍ طوال المدَّة الَّتي خدمت هذا الحيّ ، كنتُ أتفقَّد الأشياء الَّتي تصل إلى سكان الحيّ وأذهبُ لإيصالها لهم احتراسا من وجودِ شيء يهدِّدُ سلامتهم ، وفي كلِّ مرَّة كان يصلُ طرداً مختلفاً عن الباقي ومع مرور الوقت بدأت أعرف ما سوف يحتويه كما في كلِّ مرَّة من اسم صاحبه ، إلَّا أنَّه كان مميَّزاً هو تلك الفتاة القارئة الَّتي تطلب في كلِّ مرَّة روايات وكتب ( لا تحزنْ ، الأسود يليق بكِ ، أنا قبل كلِّ شيءٍ ) هذا آخر ما جاء في الظَّرف ، لقد أصبح الأمر روتينيّاً لي لدرجة أنَّني أصبحتُ فضوليّاً لأعرف أسماء الرِّوايات الَّتي ستأتي في المرَّة المقبلة ، لا أعلمُ ماذا أصابني في هذه الفترة ، إحساس يؤدِّي بك إلى طبع ابتسامة على وجهك دون أن تدركَ ، فضول ينبعث من الفؤاد ليعبث بلياليكَ ويحرق جفونك بصورة فتاة جميلة ، بشيءٍ حقيقيٍّ يستبقيكَ على قيدِ الحياةِ ... هل تعرفون ذلك الرُّقيِّ في الحُبِّ الَّذي يجعلك تُحِبُّ الشَّخص أكثر من نفسك ؟

صحيح لم يمرّ الكثير على معرفتي بها ، في كلِّ مرِّةٍ تفتح باب المنزل يتهافت عطرها بين أرجاء المكان لتستقبلني بوجه بشوش ، ولتخبرني أنَّها ممتنَّةٌ لعملي بصوتها الدَّافئ ، ربَّما بتصرّفاتها البريئة والهادئة اخترقت قلبي أو أنَّ عاصفةَ العشقِ هبَّت إلى نفوذي ، بعد كلِّ اللَّيالي الَّتي قضيتها مُتحسِّراً بين مشاعري وكما في آخر لقاء لنا تركَتْ في يداي رسالة في وجهي وأغلقت باب المنزل .. ربَّما لديكم فضول لمعرفة ما كان مكتوبا في الرِّسالة ، رغم أنَّني لم أكن أمتلك شجاعةً كافيةً في ذلك الوقت لقراءةِ تلك الكلمات المكتوبة بخطٍّ رفيعٍ ، وتلك الأسطر المتراصَّة بسبب تعاملها معي في الآونة الأخيرة ، لقد حان الوقت لتتعرَّفوا عنها بكلِّ تفاصيلها الصَّغيرة والعميقة ، ليلى حمدان ، نعم هي الفتاة الَّتي أحببتها طيلة هذه الفترة ، عاشقة الكتب بكلِّ أصنافها وخرِّيجة لكليَّة الطِّبِّ النَّفسيِّ ، وكما في كلِّ صباح وهي ذاهبةٌ لعيادتِها نلتقي أمام عتبة منزلي تُبادرُ بإلقاء السَّلام بابتسامةٍ خافتةٍ ولمعانٍ في عينَيها ، ربطات العنق الأنيقة سرّ أناقتها في كلِّ يوم بكلِّ شيءٍ فيها أحببته ، تلك السَّعادة الَّتي غمرتني يوم اعترافنا كانت كافية لجعلي فاقداً كل لحظاتي البائسة ، كلُّ شيءٍ ما زال قائماً ، لحظاتنا المتتالية الَّتي قضيناها بعد كلِّ هذا ما زالت قائمة داخلي .. كلّ صباح أنتظر مرورها من جانب منزلي لكي أستقبلها ، ملابسها الدَّافئة في فصل الخريف تزيد من جمالها يوماً بعد يوم ، قبَّعاتها الصُّوفيَّة كافية لجعلها صغيرتي ، حبيبتي المدلَّلة ، عاشقة التَّفاصيل الصَّغيرة ستكمل عامها الثَّالث والعشرين .. ليتني تعرَّفت عليها منذ عهد لكي أنالُ القِسطَ الكافي من حبِّها ، جهَّزتُ كلَّ شيءٍ لعيدِ ميلادِها الأوَّل الَّذي ستقضيه معي ، اخترت ألوان الزِّينة باللَّون الرَّمادي الَّذي تعشقه وفي كلِّ لحظةٍ أتذكَّر تحركاتها الطُّفوليَّة في منزلي ، وما بقي محفوراً في مذكَّرتي سؤالها في ذلك اليوم ..

"ولماذا عشقتني وأنت تعرف أنَّه لا يمكنني التَّعايش مع أحد ؟" فما كان عليَّ سِوى إعطائها الجواب الَّذي تريدُ أنْ تسمعَه "لأنَّني عنيدٌ ، وأُحِبَّ الوصول للأشياء الصَّعبة ، إتيانها أمرٌ في غاية اللِّذة ، وكان الطَّريق إليك أصعب من الخوض في الحرب ، شبيه بواحةٍ خضراء في قلب الصَّحراء القاحلة ، لا أعلمُ كم سأمشي فيها من خطوات ولكن ما أعلمه أنَّه مهما حييت ومهما نزفت قدماي دماً ، سأقابِلُ ياسمينة تنسيني مرَّ الأمر ، فأنتِ الياسمين والورد والحُبّ ، صدِّقيني قلبي يتباهى بِحُبِّكِ "


في أثناء هذه اللَّحظات الَّتي أنتظرها للوصول ، وردني اتِّصال مفاجئ حقّاً لم أكن أريد أنْ يدمِّرَ عيد ميلاد حبيبتي إلَّا أنَّه أُقيمَ هجوماً في المدينة وما عليَّ سِوى الوفاءِ لعملي قبل الوفاء لنفسي ، ربَّما صعبٌ أنْ أترككِ في هذا اليوم بعد أنْ أخليت كل مواعيدك في عيد ميلادك وخصَّصته لي فقط ، ولكن أرى الآن أنَّني سأكون تعاسةً لكِ يوم عيد ميلادك سامحيني ، ربما كلمة سامحيني لن تُغيِّرَ شيئاً ، ولكن ماذا أفعل من بعدكِ ، لديك الِّنسخة الثَّانية من مفاتيح البيت ستدخلين للبيت وستناديني باسمي لمرَّات ستظنِّين أنَّها مفاجأة لكِ ولكن ستجدين حلوى عيد ميلادك فوق الطَّاولة والزِّينة في كلِّ أرجاء المنزل ، ولكنَّني غير موجود هذه المرِّة ، عيد ميلاد سعيد أيَّتها الياسمينة .. ستغضبين عليَّ في البداية لأنَّني ذهبت دون إخبارك بشيءٍ ، ولكنَّني واثقٌ بأنَّكِ ستسامحينني عند معرفة الحقيقة فما أنا بتارك لك في عيد ميلادك ..

مرَّتِ الأيَّام بسرعةٍ وتمَّ عقد خطوبتنا في 8 من شتنبر 2016 ، كلُّ شيءٍ عشناه إلى يومِنا هذا كان جميلاً ، وكأنَّ الحياةَ أصبحت ورديَّة ، أصبحتُ المقاول كاظم العمَّار كما لم يتبقَّ كثير على حفل زفافنا أنا والآنسة ليلى ، كلّ يوم ، كلّ لحظة في تفكيري ، أيّ عشق هذا الَّذي أصابني ، سألتقيها غذا بعد إنتهاء عملها في محل بيع فساتين الأعراس ، حتَّى وإنْ كان لديّ الفضول حول معرفة الثَّوب الَّذي سترتديه في ليلة زفافنا إلَّا أنَّه من تقاليدنا رؤية العروس بفستانها الأبيض قبل موعد الزَّفاف يجلب الشُّؤم ، في ظهر الغد ، وفي انتظار حبيبتي أمام محلِّ الأثواب لأخذها لشرب كأس من القهوة الَّتي تعشقها ، فجأة أسمع صراخ صادر من الزِّقاق الخلفيّ ، صوت هافت يطلب النَّجدة والمساعدة ، صوت حبيبتي وكان قذر يريد الاعتداء عليها ، لا أعلم كيف التقطت يدايَ آخر نفس له ، فسقط هو أرضاً وسقطتُ أنا ضحيَّة الغيرة .

و ها عدتُ لكم من زنزانتي ، أسير لحرِّيَّتي وكذا مشاعري ، لم تصلني رسالة من حبيبتي لمدَّة شهرين ، لا أعلمُ شيئاً عنها .. هل هي بخير ؟ أم أنَّ النِّسيان سيِّد المواقف ؟ لم أجد أجوبة في مكان على هذه الأسئلة ، ولكنَّني أعرف أنَّكِ لا تفارقين خاطري ، لم يبقَ الكثير على خروجي .. سألتقيكِ مرَّةً أُخرى وسأضمُّكِ إلى صدري عناق المائة عام ...

13 أكتوبر 2019

أنا أمام باب السِّجن ، طيور مُحلِّقة ، غيوم بيضاء وسماء زرقاء ، استأجرتُ سيَّارة أجرة وها أنا أمام بابِ المنزلِ أفتحه .. لن أجدَ سوى رائحة أُمِّي في جدران هذا المنزل ، وما سال من دمعكِ في تلك اللَّيالي يا أُمِّي على أنْ تريني أعودُ من جديد إلَّا في هذا المنزل ، سامحيني لأنَّني لم أكن في لحظاتك الأخيرة ، ماذا عن حبيبتي؟! ، أين أنت ؟! هل سنأخذُ لعبة البحث عنك في هذا العالم.! .. بعد دقائق طرق باب المنزل ظننتُ حقّاً أنَّها ليلى الَّتي جاءت ، أقدمت على فتح باب المنزل ووجدت الخالة نوران تقفُ أمامَ بابِ المنزلِ لم ترِد الدُّخول إلى الدَّاخل إلَّا أنَّها أعطتني ظرفاً أخبرتني هو مِن ليلى ، سألتُها أينَ هي الآن ؟ لماذا لم تأتِ ؟ وما كان جواب الخالة إلَّا بكلماتٍ غير مفهومة أقفلت الباب لكي أرى ما بهذا الظَّرف ، رسالتنا الأولى كانت اعترافاً بعشقنا ماذا عن هذه الآن ...


الرِّسالة :

إلى سيِّد قلبي وابتسامتي في هذه الحياة .. حبيبي الَّذي أحببته مرحباً لك .. مرَّت الخمس سنوات باستحالةٍ تامَّةٍ دون رؤيتك .. لم أستطعْ أنْ أواجهَكَ بهذه الحقيقة وجهاً لوجهٍ ، ولكنَّ هذه المرَّة انتهى كلّ شيءٍ وسيعتبر أنَّه لم يكن في يومٍ ما ، تلاشَت صفاتي الَّتي كنتَ تحبُّها في أرضٍ قاحلةٍ مع مرَضي .. عشتُ الأربع سنوات بدونك كرجفةٍ حقيقيَّةٍ كلّ يومٍ ، أحسستُ بألمِ فقدانك ولو لمدَّةٍ بسيطةٍ ، ولكن ماذا عنكَ ؟ عندما ستعرف أنَّني تحت التُّراب الآن.! ، أكتبُ لك هذه الرِّسالة قبل موتي بأيَّامٍ قليلةٍ ..كنتُ أُريدُ أنْ نكون معاً من بعدِ كلِّ شيءٍ ، وأن نكوِّنَ عائلتنا ولكنَّ الأمرَ أصبحَ مستحيلاً حقّاً هذه المرَّة ، ليتَكَ لم تحبّني إلى هذه الدَّرجة ، تركتُ لك قلادة زهرة الياسمين الَّتي أهديتَني إيَّاها في ليلةِ خطوبتِنا ، فلتكون آخر هديَّة منِّي لكَ ، آسفةٌ هذه المرَّة حقّاً.. وسامحني على كل تلك الآلام الَّتي صنعتها في روحِكَ وما زلتُ أصنعها فيك .. أتمنَّى لكَ سلاماً داخليّاً ... دمتَ سالماً يا أروعَ صدفةٍ كانت في حياتي .. ونقطة نهاية مع آخر دمعة أنزفها ..

دمتَ بخير


ماذ عن كاظم العمَّار ؟ ماذا حلَّ به بعد تلك الرِّسالة يا خالة .. ذهبَ لزيارةِ قبرَ حبيبته المتوفية بعد عناء الخمس سنوات ووضع ورد الياسمين الَّذي تُحِبُّه ، وقال : إنَّكِ على أجملِ مكانٍ في الأرضِ ، وأشارَ بيديه إلى قلبِه : إنَّكِ في قلبي .

وتمَّت بنجاحٍ ... تحمَّل يا قلبي ، فلم يعدْ لنا الكثير


بقلم ياسمين الشَّاعر


دمتُم بخير ..


إرسال تعليق

0 تعليقات