ما هو الصَّمتُ ؟ هل هو شيءٌ غير موجودٍ ، ماهيَّتهُ غيابُ البَوح كظهورِ الظَّلام بعد انطفاءِ الشّعلة ؟ أم أنَّهُ حالةٌ منشودةٌ كجزيرةٍ لاحَتْ من بعيدٍ لقواربَ أنهكَتْها رحلةُ سانتياغو الطَّويلة ؟
تُرى ما الَّذي وجدَهُ الأصمعيُّ في الصَّمتِ حينَ رفعَه لأولى الخطواتِ في اكتسابِ العِلم إذْ قال: "أوَّل العِلم الصَّمت"؟ ، وما الَّذي توصَّل إليه *أرنست همنغواي* عندما وصفَ الصَّمتَ بعِلمٍ يُدرَّسُ إذْ قال: "يحتاجُ الإنسانُ سنتَين ليتعلَّمَ الكلامَ وخمسينَ سنةً ليتعلَّمَ كيفَ يصمت"؟ ، تُرى مامقدارُ عظَمَةِ هذا العِلم الَّذي يُكلِّف الإنسانَ خمسةَ عقودٍ من عمرِه ووقتِه أغلى ثرواتهِ كما وصفَهُ *بنجامين فرانكلين* "الوقتُ هو المال"، ولماذا اعتبرَ الرَّسَّامُ الشَّهيرُ آندري وارهول الصَّمتَ كمصدرٍ للقوَّةِ فقال: "لقد تعلَّمتُ أنَّ الرَّجلَ يكونُ أقوى حينَ يصمت" ، بل ما عِمقُ الجُرحِ الَّذي أحسَّهُ جبران خليل جبران عندما كتبَ: "إنْ لم تستطِعْ النِّطقَ بما هو جميلٌ فصَمتُكَ أجمل"؟.
كلَّما ازددتُ بحثاً لأفهمَ الصَّمتَ ازدادَتْ أمامي أعدادُ العظماءِ الَّذين اتَّخذُوا منه ملاذاً وأبدعوا في وصفِهِ وتغنُّوا بهِ فأزدادُ ولَعاً لأعرفَ السَّبب.. ولم أجِدْ جواباً يصفعُ فضولي أكثرَ من التَّاريخ!
جُملةٌ واحدةٌ أدَّت لإعدامِ رجُلٍ ... جدالٌ بسيطٌ أدَّى إلى الجَلدِ حتَّى المَوتِ لرجلٍ آخرَ.!
وفي المقابلِ صمتٌ وكَفُّ مِراءٍ أدَّى لمجدٍ عظيمٍ لرجُلٍ ثالثٍ...!
يقولُ روبرت غرين في كتابِه <قواعد السَّطوَةِ> (وفقَ القاعدةِ 4/80): "اقتصِدْ دائماً في كلامِكَ" واستشهدَ على ذلك بقصَّةِ الملكِ لويس الرَّابِع عشَر ، يُقالُ بأنَّه كانَ ذو صمتٍ مُهيبٍ تخافُه حاشيته لِشُحِّ كلماتِهِ وهذه الصِّفةُ أضفَتْ الرَّهبةَ حتَّى في نفوسِ أعدائِه ، ومن أكثرِ التَّعليقات الَّتي اشتُهِرَ بها عندما تُعرَضُ عليه قضيَّةٌ ما مهما بلغَت أهميَّتها كانَ يقولُ: "سوف نرى" ومن تعليقاتِه المشهورة أيضاً والغريبة "أنا الدَّولة"؛ تعليقٌ بليغٌ بقَدرِ اختصاره.
وهنا نكتشِفُ بأنَّ الصَّمتَ يزيدُ منَ القوَّة.
هنالكَ قصَّةٌ أُخرى تكشِفُ لنا أنَّ الاقتصادَ في الكلامِ يقلِّلُ من التَّعرُّض لقولِ أشياءٍ تُهدِّدُ الحياةَ وقد حَدثَتْ عندما اعتلى القيصر /نيقولاس الأول/ عرشَ روسيا عام 1825م ، حيثُ اندلعَ تمرُّدٌ ضدَّه يقودُه اللِّيبراليُّون بهدفِ دفعِ عجَلَةِ التَّطوُّرِ الصِّناعيِّ للأمام ، فقامَ نيقولاس بسحقهِ بوحشيَّةٍ وحكمَ على أحدِ القادَةِ _وكانَ اسمُهُ ريلييف كوندراتي_ بالإعدامِ شنقاً . في يومِ الإعدامِ وقفَ ريلييف على خشبةِ الإعدامِ المُتحرِّكة والحبلُ ملفوفٌ حولَ عُنقهِ وعندما فُتِحتِ الخشبةُ تدلَّى ريلييف وفي اللَّحظةِ نفسها انقطعَ الحبلُ فسقطَ ريلييف على الأرضِ ولم يُصَبْ بأذى . في ذلك الزَّمن كانَتْ أحداثٌ من هذا النَّوع تعني تدخُّل العنايةِ الإلهيَّةِ للإبقاءِ على حياةِ المحكوم بالإعدام فيتمُّ العفوَ عنهُ إذا نجا بهذه الطَّريقة ، لكنْ حينَ وقفَ ريلييف على قدمَيه بعد سقوطِه ويقينِه بالعفو صرخَ في الجُموعِ: "أرأيتم أنَّ روسيا لا تقدِر أنْ تصنعَ شيئاً جيِّداً ؟ حتَّى الحِبال!". وهُنا وصلَ خَبرُ العفوِ الإلهيِّ إلى القيصر فاشتعلَ غيظاً من هذه المفاجأة وبدأ بتوقيعِ قرارِ العفو ، لكن فجأةً توقَّف وسألَ الرَّسولَ الَّذي جاءَه بالخبرِ: "هل قالَ ريلييف شيئاً بعد المعجزةِ الَّتي حدثَتْ مَعَهُ؟" فأجابه الرَّسول بما قالهُ ريلييف ، حينَ سمِعَ القيصرُ ذلكَ قال: "إذاً علينا أنْ نثبتَ له عكسَ ما يقول" ومزَّق قرارَ العفوِ وفي اليومِ التَّالي أُعيدَ شنْقَ ريلييف وهذه المرَّة لم ينقطع الحبل!. كيفَ قضى ريلييف ليلتَه تلك بعد أنْ علِمَ أنَّ السَّببَ الَّذي حالَ بينَه وبين حُرِّيَّته الَّتي انتظرها ، والَّذي تسبَّبَ لهُ بقرارِ إعدامٍ جديدٍ كانتْ كلمات!؟ . إنَّ الكلماتِ الَّتي تخرجُ من فمكَ لا يمكنُ أنْ تُعيدها إليه لذلكَ أََطبِقْ عليها بإحكامٍ فالكلمةُ إنْ أطلقتَها مَلَكَتكَ وإنْ كَتَمتَها مَلَكتَها أنتَ.
وفي عام 131 ق.م وبعدَ أنْ حاصرَ القنصلُ الرَّومانيُّ بوبليوس موسيانوس مدينةَ برجاموس اليونانيَّة ، وجَدَ أنَّه بحاجةٍ لعمودٍ لِدكِّ ثغرةٍ تُفيدُ في اقتحامِ أحدِ أسوارِ المدينة ، وهُنا تذكّرَ أنَّه لمحَ ساريَتينِ في الأسطولِ إحداهُما أكبرُ من الأُخرى فأرسلَ الجنودَ ليُحضروا السَّاريةَ الأكبر ، لكنَّ المهندسَ العسكريَّ كانَ مُتأكِّداً أنَّ السَّاريةَ الأصغرَ ستُفيدُ القنصلَ أكثرَ وجادَلَ الجنودَ الَّذين جاؤُوه بطلبِ القنصلِ كثيراً ورسَمَ لَهُم المخطَّطات فنصحوهُ بأنْ ينسى خبرته ويُنفِّذَ أمرَ القنصلِ لكنَّه رفضَ لأنَّه يعلمُ تماماً أنَّ السَّارية الأصغرَ ستفيدُ أكثر فأرسلها معَهُم وعندما رآها القنصلُ استشاطَ غضباً حدّ نسيانِه دكَّ الثَّغرةَ وطلبَ إحضارَ المهندسِ إليه فوراً وعندما جاءَه المهندسُ أعادَ له نفسَ الجدلِ واستفاضَ في الشَّرحِ مكرِّراً ذاتَ البراهين ، تركَه موسيانوس حتَّى فَرَغَ من كلامِه ثمَّ أمرَ الجنودَ بتعريةِ المهندسِ وضَربِه بالعِصِيّ حتَّى الموتِ . قضى هذا المهندسُ الَّذي لم يذكر التَّاريخُ اسمه حياتَهُ كلّها يعملُ في تصميمِ السَّاريات والأعمدة بل كانَ أكفأَ مهندسٍ في مدينته ، لكنَّ جداله وكثرةُ كلامِه في وقتٍ وَجبَ فيه الصَّمتُ دفَعَهُ للموتِ بطريقةٍ بشِعة ، ربَّما لو لم يجادل القنصلَ كثيراً ما كانت تلكَ نهايته.
ومن ناحيةٍ أُخرى ، في عام 1502م كانتْ هناكَ كتلةٌ كبيرةٌ من الرُّخام في كنيسةٍ بمدينةِ
فلورنسا ، وكانتْ جزءاً من قطعةٍ صخريَّةٍ رائعةٍ لكنَّ نحَّاتاً غيرَ ماهرٍ شوَّهَها واستحالَ إصلاحُها ، وهنا سعَى *بيبرو سودريني* وكان راعي الفنون آنذاك وسيّدها لإنقاذِ الصَّخرة بتكليفِ أساتذةٍ في النَّحتِ كدافنشي وغيرِه ليصلِحوا التَّشوُّهَ ولكنَّ جميعهم رَأَوا بأنَّ إصلاحَه غير ممكن ، وهكذا ظلَّتِ الصَّخرةُ عِبئاً لا تجمعُ غير التُّرابِ في الصَّالة المُظلمةِ للكنيسةِ ، إلى أنْ ترامَى خبرها لسمَعِ مايكل أنجلو ، فجاءَ للكنيسةِ وتفحَّص الصَّخرةَ ورأى أنَّه بالفعلِ يستطيعُ نحتَ شيءٍ مُميَّزٍ منها يستوعبُ مقدارَ التَّشوُّهِ الَّذي حلَّ بها . لم يقتنِعْ سودريني في البدايةِ بأنَّ مايكل يستطيعُ أنْ يفعلَها ولكنَّه في النِّهايةِ سمحَ لَهُ الشُّروعَ في العملِ ، وقد بدأَ مايكل بنحتِ الصَّخرةِ وصنعَ منها تمثالاً للنَّبيِّ داود في طفولتِه و في يدهِ مقلاع . بعد أسابيعَ من العملِ الدَّؤوبِ وفي يومٍ كانَ يضعُ فيه اللَّمساتِ الأخيرة ، دخلَ سودريني عليه القاعةَ وأُعجِبَ بالتِّمثالِ ثُمَّ وقفَ تحتَ التِّمثالِ مباشرةً ونظرَ للأعلى وقال: "جيِّدٌ لكنَّ أنفَه كبيرٌ! مايكل قُمْ بتعديلِه" وهنا فكَّر مايكل وهو مُوقِنٌ بأنَّ أيّ تعديلٍ على الأنفِ سيُشوِّهُ الوجهَ كاملاً في أنَّه إنْ جادلهُ بوضعيَّةِ وقوفِه الخاطئة لن يقتنعَ ، فما كانَ من مايكل إلَّا أنْ أمسكَ حُفنةَ ترابٍ واعتلَى السَّقَّالة وبدأَ يطرقُ الأنفَ بطَرقَاتٍ خفيفةٍ من دونِ أنْ تؤثِّرَ عليهِ وراحَ يسرِّبُ من بينِ أصابعِ اليدِ الأُخرى ذرَّاتِ التُّراب وعندما نفَذَت قال لسودريني: "ارجَعْ قليلاً للخلفِ وانظرْ إنْ أصبحَ مُناسِباً" ، وعندما رجعَ سودريني للخلف وأعاد النَّظرَ للوجه قال مبتسماً: "الآنَ أصبحَ أفضلَ بكثير". نتيجةَ إعجابِ سودريني بالتِّمثال وحديثه عنهُ أحبَّهُ الفنَّانونَ والعامَّة وصارَ من أشهرِ الأعمالِ الفنِّيَّة عالميّاً ، وهنا نستنتِجُ بأنَّ الحقيقةَ تُرى ولا تُسمَع مهما سعَى الكلامُ الكثيرُ في إثباتها.
غريبٌ هو كُنهُ الصَّمت . يبثُّ الغرابةَ في روَّادِه لدرجةِ إثارةِ الفضول اتجاههم . جميعنا يعلمُ بأنَّ نفسَ الإنسانِ توَّاقةٌ للغَرابَةِ تبحثُ دائماً عن معنىً لتفهمَ من خلالهِ الحياة ، لكن بعدَ أنْ تصقلَها مرارةُ التَّجاربِ وقساوةُ المواقف ستجِدُ في الصَّمتِ ملاذاً لتحقِّقَ من خلاله سلامها الدَّاخليّ بعدَ أنْ تدركَ بأنَّ جُلَّ المشاكلِ الَّتي مرَّت بها كانتْ بزيادةِ بَوحِها. وتذكَّر دائماً بأنَّه عندَ اكتمالِ القمر يفتحُ المحارُ صدفَته وعندها يُسرِعُ حيوانُ السَّرطانِ ويضعُ حجراً ليمنعَها من الانغلاق ثانيةً فيصبحُ المحارُ وجبةً له ، ذلكَ هو مَنْ يفتحُ فمه أكثرَ من اللَّازم ويضع نفسَه تحتَ رحمة المستمِع.
راما بالق
المصادر:
قواعد السَّطوة / روبرت غرين

0 تعليقات