
الاسئلة الكبرى والجديد في الفسلفةِ والآداب والفنون والطب ، تطرح بعد المحن الكبرى التي يعبرها الإنسان ، محن الخراب والموت والدمار والخوف والألم.
من ضمن تلك الاسئلة الكبرى فكرتا " الموت " و " الخوف " التي صاحبت الإنسان في رحلته التاريخية ، رحلة قائمة بين البناء والهدم.
وفي ضوء تلك الأزمات الحادة الكبيرة تتأسس مقولات جديدة ، تتأسس جماليات جديدة ، تتأسس بلدان ، وتمحي بلدان و جغرافيات وتختفي لغات وتنكمش الديانات وتتوسع أخرى .
وفي كل كارثة يتوجه الإنسان بخطابه العاقل أو الروحاني إلى أمرين أساسيين :
الأمر الأول : هو السماء ( الدين والقوى الغيبية ) ، بالرغم من كل الممتلكات العلمية و العقلية التي اكتشافها و اكتسابها الإنسان إلا أن السماء تظل حاضرة في وعي لا وعيه وهو ما يسمى " بالدعاء " ومناجاة الله وتوكل عليه .
الأمر الثاني : هو العلم ( البحوث و المخابر )، وهو ما أطلق عليه بمعركة العقل في اكتشاف الغموض التي يحيط بحياتنا ، ومن هذه الأمرين تتولد القوة والطاقة التي تعيد إحياء الحياة ، بعد كل كارثة ومحنة كبرى ، ومن خلال هذين الأمرين ، يريد الإنسان و هو في لحظة صراع ضد و حشية نفسه ( وحشية الإنسان المتوحش ) وضد (توحش الطبيعة ) ، التغلب على الموت ومواجهتها .
منذ الأزل كل تفكير الإنسان هو لردع فكرة "الخوف" ، الخوف الذي يسكنه حيال حالات " اللافهم " و العجز المادي والمعنوي للعالم الغامض ، وفكرة " ردع الموت " هي عملية بحث عن الاطمئنان أي الاستمتاع " بشهوة الحياة " من دون التفكير في " خطر الموت " .
في كل منعطف يلبس " الخوف " الإنساني لبوسًا جديدًا بحسب المحيط الاجتماعي و السياسي والطبي والاقتصادي والطبيعي ، لذا تظل مقاومة " الخوف " هي هاجس الإنسان كلما أراد مطاردته ، عاد إليه على هيئة شكل أخرى فالإنسان كثيرًا ما يصنع الخوف ثم يحاربه ، كلما اعتقد أن سقف بيته أصبح يحميه اكتشف بأن شيئًا آخر يهدد الأرضية التي يقوم عليه البيت برمته ومن أساساته ، كلما اعتقد بأن سلاحًا جديدًا يحميه اكتشف سلاحً أشرس منه في يد خصمه ، كلما اعتقد أن دواءً أوقف هذا المرض ظهر وباء آخر يهدد انتصاره ، فالحروب مفتوحة من كل الجهات وعلى كل الجبهات ، والموت في كل زاوية من زوايا الحياة ، لِذات الخوف قائم والبحث عن مقاومة الخوف قائمة .
وهنالك اختلاف بين فكرة الخوف " من الموت ومن الفناء بحسب مصدرها :
-فكرة الخوف من الحروب : الحروب قتلت ولا تزال تقتل ، آثارت الخوف والهلع لا تزال تزرعها شرقاً وشمالًا غربًا وجنوبًا ، الحروب الكلاسيكية ، الحروب الفروسية بالسيف ، وحروب البارود وحروب الرصاص والحروب التكنولوجية الجراحية كما يقال !
كل هذه الحروب زرعت في قلوب البشرية الخوف ، خوف الصغار والكبار والنساء والرجال ، عرفه الإنسان عبر أزمات التاريخ وهي الأكثر شراسة في الفتك الإنسانية .
- خوف المجاعات : هي حرب من نوع أخرى قتلت الملايين ، وروّعت الملايين ، من مجاعات خلدتها نصوص دينية أو أدبية أو تاريخية قديمة ، كابدها الإنسان في القرن التاسع عشر و العشرين ، دفعت تلك الحروب البشرية إلى أكل أنواع الحيوانات و الحشرات و الدود و جذور الغابات ، و أكل جثث بعضهم البعض ، حدث هذا في كل مكان في إفريقيا و آسيا و أوروبا و أمريكا ، لكن هذا الخوف كان في غالب الأحيان موسميًا و عابرًا .
-الخوف من الكوارث الطبيعية الشرسة ، و تذكرنا الكتب المقدسة من التوراة مرورًا بِالأنجيل و القرآن الكريم بكوارث طبيعية مهولة كما هي في قصة سيدنا نوح وَ قصة سيدنا لوط .
وقبلها تذكرنا ملحمة جلجامش بالطوفان ، ولا تزال صور التسونامي المرعبة حاضرة في أذهاننا ، ولا تزال الطبيعة تفاجئنا بغضبها في كل لحظة ، و أعتقد أن " الخلل الإيكولوجي " وارتفاع حرارة الأرض و ما تنتج عنه ذوبان الجليد في القطبين ، سيكون كارثة أخرى وخوف آخر . - الخوف من التكنولوجية المتوحشة ، و تضم ما يسمى بالحرب البكتيرية القادرة على مسح " الحياة " من على وجه الأرض ، فالإنسان المعاصر أصبح يخترع أشياء تصبح في لحظات معينة أكثر منه ذكاء ، فلا يستطيع التحكم فيها لذا يدعو فلاسفة الأخلاق إلى " أخلاق التكنولوجيا " التي هي الطريق الوحيد لتخليصها من " التوحش " الذي ستكون في نهاية الحياة على يديه .
اليوم والبشرية أمام " هلع والخوف " من وباء فيروس "كورونا ، كوفيد 19" ، يختلف عن خوف " الحروب و خوف المجاعات و خوف الكوارث الطبيعية ، إنه خوف من توحش الإنسان لنفسه ، خوف من " عقل " الإنسان المتوحش إنها " الوحشية " المعاصرة .
في كل مفصل تاريخي مأساوي كانت الكتابة ترافق ذلك بإعادة النظر في شكلها وأسئلتها .
في مواجهة "فلسفة الخوف"، طرح الأدب والفلسفة والسينما والعلم أسئلة جديدة عقب الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وطرحت أسئلة أخرى بعد وصول الإنسان إلى سطح القمر، وأخرى بعد زرع أول قلب صناعي للإنسان. واليوم وأمام فيروس" كورونا، كوفيد 19" وفي ظل هذا الحجْر الذي يدخله الإنسان وهو في ذلك يشبه "الفأر" المروع في جُحره المظلم، فإن الإنسان سيطرح أسئلة جديدة في الفلسفة والطب والآداب والشعر. ستدخل الكتابة، كما السينما والطب، منطقة جديدة لمساءلة الطبيعة والعالم والحياة؟
أمام وباء فيروس "كورونا، كوفيد 19" ، يأخذ الخوف شكلاً آخر، لأن الصور المجسدة له تتجلى في الشوارع والساحات الفارغة المخيفة في كبرى المدن، تتجلى في صور أماكن العبادة التي لطالما كانت "بيوتاً" للآلهة، إليها يلتجئ المؤمن هرباً من "الخوف"، فإذا هي مغلقة، خالية، مهجورة، وقد كانت بالأمس دعاءً وصلوات وطوافاً وبخوراً وأنواراً، وهذه الصور لا تتوقف عن شاشاتنا، وَ تَصِلُنا على "المباشر"، إنه "الخوف" على "المباشر"، فيلم "رعب" حيث الواقع أكبر من الخيال.
أمام كورونا التي تعد منعطفاً خطيراً على وجود "الحياة" على كوكب الأرض، فمن المؤكد أن هناك أسئلة جديدة ستطرح غداً أمام الفيلسوف والأديب والفنان، وأنها ستكون ظلاً على الإبداع في العشر سنوات القادمة، تفتح "الأمل" وتسائل "الخوف" مرة أخرى، بحثاً دائماً عن "طمأنينة" مفقودة، وسعياً إلى خلود مَحلومٍ أو موهوم.
لمياء حسّو.
0 تعليقات