عبير من الخذلان | آية إدلبي



الأزهارُ شامخةٌ، تستعيدُ حيويَّتها رويداً رويداً، مع تساقُط قطَراتِ الندى، تزامناً معَ خَفتٍ هادئ من سراديبِ أشعة الشمس، وتُزقزق عصافير السنونو زقزقتَها على خيوطِ الفجرِ فتصدح بصدىً واسعٍ، كصدى قرعِ طبولِ الحربِ وإعلاناتِ النصر.

وهناك تغدو بساتينُ الطمأنينةِ في قلبي زاهيةً بكل ما تحتضنُه من آهاتٍ منسِية، ودمعاتٍ مُجففة، وصراخٍ مَعتوه، والبُكاء المَكتومِ خَلفَ سَكينةِ الصَّبرِ والحُلم الشّاهِق...

وهكذا أبْدأ أيّام حَياتي.. مع إِشراقَة صُبحِ انتَظرتُه في مآسي الدُجى، ومن ثم أمارِس روتيني المُعتاد، انسى ما نسيت وأُكمل ما أريد، وأعيشُ حُقبَة أيّامِي رُغم الهُدوءِ اليسيرِ فهيَ مُبطَّنة ٌبضَجيجٍ من فوضى الكُتمانِ، وغارِقةٌ بعُمقٍ من فوضى التّركيز، بَعيداً عمّا أحب، كنتُ أتَقبّل كلّ شيءٍ وأُكمِل ...إلى أن أتيتِنِي أنتِ،

 بعد حُروبٍ متتالية خُضتها لِوحدي ...أتصارع فيها مع أَطراف المَشقّة خلفَ قُضبَان الظلام، أتيتِني كالظلّ الذي أحتسبُه شِراعاً يقيني من حرّ أشعّة الحرب ، كاليدِ الحانية التي تُرَبِّتُ على كتفي لأطمئِنّ،  كالنور الذي أضَاء عتمتي والكثير من ذلك، نَسيتُ الحياةَ ومجاريها والآلام ومُسكناتها، رميتُ كلّ شيءٍ أرضاً واتجَهتُ نحوَكِ، عَرفتُ أنّي مُخطئ، ولكني جازفتُ وغامرتُ رغمَ يقينيَ التّام بزَيفِ قلبِك، وهشاشة ضلعِك، وضمور إحساسِك، أمِنتُكِ حتى انفَضَّ الأمان وتسرّب من بين يدي، وبدأتُ أسيرُ آسِياً بخطى غيرَ واثقةٍ خلفَ نواياكِ الظّالِمة كأنّني أبلهٌ معتوهٌ عاجزٌ عن مُنازلتكِ، تمسّكتُ بكِ كالطّفل الّذي وجدَ أمّه بعد ضَياعٍ طويلٍ فاستقَر،  وهناكَ على خطاكِ أنتِ انعطفَت حياتي انعطافها الأوّل.. لِأبدأها من جديد معكِ، بظلمٍ آخر، بتجربةٍ قاسية، بظلامٍ كالحٍ لم أعهدهُ من قبل، تطلعتُ إليكِ بأملٍ ...بنظراتٍ بعيدةٍ، وبالآمال-حيواتٍ وحياة-توهّمت بكِ الرّؤى الواسعة، وَنَاولتِنِي الكثيرَ من المُخدّرات التي تجرّعتُها ببطء…

تماما كما خطّطت لطريقة تناولِها ، حيث أني بكلِّ جرعةٍ كُنتُ أغرقُ في غيبوبةِ سعادةٍ مزيفةٍ وأحلامٍ وهميةٍ، وقلبي قلبٌ مكلومٍ يتجرّع الخديعةَ بشغفٍ، لعلّه يشفى ويَبرأُ مما سبق

 وهكذا كانَ كلُ شيءٍ على ما يُرام ..و لكن قلبك لم يرُم على شيءٍ، رِمتُ أنا وارتَميتُ في خداعِك...

كنتِ تشدّين على يديّ، فأشتدُّ بكِ سعادةً وأماناً، تبتسمينَ لي فتسعدُ روحي وتنشط بيولوجيا الحياة في داخلي، فيترتب النّبض، وأعيشُ الحُب، وأبدو وكأنني آتٍ من عالَمِ الخيال، ذاك العالمُ الّذي لا بُؤس ولا شقاءَ فيه، المليءُ بالحبّ والمثاليّة التي لا أجدُها إلّا في قوانينِ الفيزياء،

أحببتُكِ ويا ليتني ما فعلت...


كانت وعودُك القويّة تُخدّرني لأجَلٍ طويل، كان وعدُكِ الأخير بألّا تتركيني عند بأسٍ شديد، ألا ترحلي لأجلهِ وكأنّك تعرفينَ أنّني مُقبِلٌ على أيامٍ  عِجَاف وشدّةٍ مريرةٍ.

وعدتِنِي ذلك الوعدُ حتى أتتْ تلكَ العاصفةُ التي اجتاحتني واقتلعت الكَثيرَ من ثوابتي و أوّلهن : أنتِ.

حينما اشتدّت عليَّ الحياةُ تَركْتِني وارتحلتِ، خذلتِني وكأنّني عاجِزٌ عن كسرِك، أنتِ لا تَعي بأنّني لا أعرفُ كيفَ أخون، وأسفي أنني ما عرَفتُ كيف أتصدّى لِحبّك وأتجنّبه، فقد عرفتُ كيفَ أعيشُ آلامي لوحدي، عرفت كيف أُداري خيانَتك لي، كيف أُلملم شتاتَ روحي المنهكة، عرفتُ كلّ هذا وعجِزتُ أن أعرفَ كيف أنساكِ، لازلتُ أذكرُ كلماتك الجارحة، كما أذكر وعودك المزيفة، أودُّ أن تتذكري ما قُلتِه لي في لقائنا الأخير: سألقاكَ يوماً … وربّما ألقاكَ وأنت على الحالِ ذاتِه، قد تصحو وربّما لا...

وها أنا ألتقيكِ بعدَ عامين، أتُراكِ على حالكِ أم تقدّمت؟ أتُراني على حالي وتَرَينَ ذلك؟! أم أنك ترينني كيف أمَشِي بخطاي هذه وكأن شيئاً لم يكن؟!

كنتِ تفخرينَ بكبريائكِ معتقدةً أنكِ برّاقةٌ، دون أن تري زيف نفسك، قُلتِ لي مكانكَ ليس بجانبي وهنا صدقتِ، نعم ليس بجانبك فأنا أستحقُّ الأفضل والأنقى..

أنا لا أستحقّ منكِ تلكَ الخيانةَ والخديعةَ ولكن هيهات...

ومع ذلك لك فضلٌ عليّ، إذ تعلّمتُ منك أنّ أهازيج الحياة تؤرجِحُنا من طَرفٍ إلى آخر وكلما نُغادرُ طرف نكتسبُ شخصيةً جديدةً وننسى شخصيتنا السابقة وهكذا دواليك، تعلّمتُ أن الصّدق هو من يُحَدّد شخصية المرء وأصالتِه.

كنتِ الحبَّ والخديعة، كُنتُ الأمان والضحية، وأَنتِ أنتِ الزَّيفُ المَرير، الجُرحُ القاسي، العَذابُ المحتوم.. قد كُنتِ أنتِ ولازِلت أنا.

في بادئِ الأمرِ ظَننتُ أنّي سأبْكي مِراراً بمرارة قلبٍ محروقٍ على رحيلِك،

ولكنني ما فعلت، عُدتُ إلى سَكينتي التي سَلَبتِها منّي، إلى حياتي الهادئَة واستَعدْتُ من ماضينا كوبَ القَهوة وكتابَنا من -أينَ سَأبدأ-وبدأتُ،

هكذا طَبطبتُ على قَلبي، وأدبَرت عن خيانتِك وعالجت جُرحي منكِ.

وبَعدما وجَدتُ الطُمأنينةَ من بعدكِ أدركتُ أنكِ أنت العَقبةُ التي اجتاحَتني ولَيستِ الشدائد، أنا لم أكنْ عاشقاً ولهاناً وحسب، قد حَسِبت نفسي أنّني وقعتُ وقعَةً جرداء في صَحراءِ حُبِك، وحَسِبتني كنتُ متهوّراً ولا حياةَ لي لتَعدميني برحيلك...لا أبداً لم يكن كذلك ، ماكُنتِ تجربةً قاسِية، ولا حُباً عميقاً ولا طَيفاً ملازماً،  وإنّما كُنتِ عبير من الخذلان، عبير عبرَ بانتِثارِهِ في حدائقِ روحي فاستنشَقتُه، ومن ثمَّ اختفى ...

وأنا لازلت أنا:

هناك.


بقلم: آية ادلبي


إرسال تعليق

2 تعليقات