رُواق
أذكرُ ذلك اليوم جيدًا
دخلتُ متحمسةً لأول يوم عملٍ لي، سيكون يومًا استثنائيًا بالطبع؛
إذًا كلّ ما عليَّ فعله هو أن أذهب إلى مدير المشفى وأتلقّى أولى المهام ...
لكن لم يُكتب على ورقة التوظيف مكان مكتبه... قد يكون في أيّ طابق أو ممر وعليَّ أن أبحث دون تأخير.
كنت أهرول مسرعةً في الممرات لئلا أتأخر حين سمعت أنينًا خافتًا، فلم أستطع أن أكمل دون أن ألتفت، وقفت أمام أحد جدران تلك الغرفة التي ينبعث منها ذاك الأنين وكأن الجدار يخفي خلفه جريحًا شارف على الموت ولا يريد لأحدٍ أن يراه، اختلست النظر من باب الغرفة لعله أحد الأطباء المناوبين، لكن لا ... لقد بهتُّ أمام ما رأيت.
كان طفلًا يلتحف بغطاء أحد الأسرّة، ينام الليلُ تحت عينيه وتنسلّ قطرات الدمع من بين جفونه معلنًة عن حريقٍ في
الأعماق ماعاد يُحتمل.. ما إن خطَوت خطوة إلى الأمام حتى صرخ بقوة:
_لا تقتربي مني و اتركوني وشأني.
فزعت حينها!! وضربات قلبي تتسارع،
أأخرج!! استجمعت قواي ودَنوت منه وهَمَست:
_أدخلني ... فليس لي مكانٌ في الخارج
لم تنطق شفتاه بكلمة إنّما أومأ لي فجلست كما كان يجلس،
كنا اثنين الصمت ثالثُنا إلى أن قاطَعَه بكلماتٍ تحارب لتخرج من بين الأنين:
_كانت دائمًا تحبه أكثر مني، خرجتُ بأعجوبةٍ لأبقى معها، أغمضت عينيَّ ولم أر سوى صورتها تناديني وترشدني لأنجو، وما إن رأتني حتى احتضنتني فنسيتُ كلّ ما مررت به، ولكنّها دفعتني وعادت إليه، فضّلت أن تبقى معه بين ألسنة النيران، وتركتني بين يدي جارتنا، عادت إليه وبقيا معًا وأصبحت انا بلا أمٍّ أو أخ، أقسمت لهما مرارًا: "والله سألعب معه بل سأعطيه ألعابي كلّها" عودي فقط وأحضريه معكِ.
أفلَتَ الغطاء الذي كان يحتضنه ليكشف لي عن كدماتٍ وخدوشٍ على يديه وقدميه،
أيُّ معركةٍ خضت يا صغيري!!
لم أفهم ما يعنيه ولم أجرؤ على قول شيء
فنظر إلي وشعرت أنّ نظرته قبضت قلبي لتفتته إلى أجزاء
وقال ...هي تراني الٱن أليس كذلك؟
لم ينتظر لأجيبه بل تابع كلامه المخنوق:
_هي تراني، كيف تتحمل رؤيتي أُهان، أُعذّب، أُضرب وأنامُ جائعاً؟ لمَ ترفض أن تأخذني إليها وإلى أخي
أيعقل أنها لم تلحظ أنّه لم يعد لي مكانٌ هنا من بعدها؟
عندما علمت أنه لا مكان لكِ في الخارج أدخلتُكِ
أيعقل أنها لا تعلم!!
أم ليس لي مكان معها أيضاً؟ هل تعاقبني لأننا تشاجرنا أنا وأخي وأخذتُ منه كلّ ألعابنا؟
كدت أن أنطقَ بأول كلمةٍ حين دخل الطبيب وطلب مني الخروج
ليبقى الكلام معلقاً بين النظرات
لكنني هذه المرة استطعت أن أفهم نظرته جيدًا
كان ينظر إليّ نظرةَ شفقةٍ على حالي
كيف سأخرج وليس لي مكانٌ في الخارج!!
ما هي إلا بضع خطواتٍ متثاقلة
و ألمح ظل امرأة من بعيد تبحث عن شيءٍ ما، اقتربت قليلا ليتضح لي أنه ليس ظلّاً إنما هي امرأةٌ فعلًا اقتربت قليلا ليتضح لي أنه ليس ظلّاً إنما هي امرأةٌ فعلًا!
امرأة نحيلة شاحبة، وكأنها خرجت من فيلم رعب..
فكرت للحظة أنهم يصوِّرون فيلما فعلًا.
نظرَت إلي وتمتَمت "أين هي؟" لم أكن أعرف عمّ كانت تبحث فلم أجب واكتفيت بأن أنظر إليها وهي تبحث في زوايا الممر، بدأت تسرعُ وهي تتجه نحوي وتصرخ: أين هي؟ أين أخذتِها؟ أعيديها،
ما كان مني إلّا أن بدأت أجري، كنت خائفة ومذعورة لا أعلم إلى أين أجري، فقط أعلم أنه لا يجب أن أنظر خلفي، ثم شعرت برأسي يرتطم بالأرض، وبيديها تلفّ عنقي لتهمس في أذني:
"كانت جميلة جدًا، كان خطأي ...ما كان عليّ تركها"
وتحوّل هذا الهمس إلى صراخٍ مجددًا،
ولكنني لم أكن أسمعه هذه المرة، ما كنت أسمع سوى طنينًا قويًا حين بدأ الظلام يجتاح بصري، وبدأتُ أفقد الشعور بأطرافي.
لا بدّ أن شريط حياتي سيمرّ أمام ناظريّ الآن، ويومي الأول في العمل سيكون يومي الأخير في هذه الحياة..
شهقة قوية مني تضخ بعض ذرات الأكسجين إلى عروقي،
لأشعر أنَّ جثة هامدة تستلقي فوق جسدي،
أدفعها وكأنني أدفع كلّ التّهم التي ألصقتها بي وأحاول التقاط أنفاسي
لألاحظ طبيبًا يقف خلف تلك الجثة وبيده إبرة
أصرخ بصوتٕ لم أسمعه من قبل وكأنه خرج بعد عراكٕ شبّ بين حبالي الصوتية
أقتلتها؟؟؟
فيجيبني ببرود
يبدو أنّ دماغك قد فقد الأكسجين مدة لا بأس بها
أيعقل أن أقتل مريضة في المشفى التي أعمل بها؟
هذه إبرة مخدرٍ ليس إلّا
ثم قال بعدها ليخفف من هول الصدمة دعابةً سخيفة ليست في وقتها:
"على الرحب والسعة لا تشكريني، إنقاذ حياتك واجب عليَّ سيدتي"
أظن أنّ نظرتي كانت كافية ليشعر بسخافة الدعابة،
سألته فورًا: عن ماذا كانت تبحث؟
فردّ على سؤالي بسؤال:
_هذا يومك الأول؟
_أشرت له ب "نعم"
فقال هذا يفسر الكثير ..
_لقد كانت تبحث عن عيني ابنتها لهفة
_قلت في نفسي يبدو أنه عاد لدعاباته السخيفة،
ويبدو أيضًا أنه أدرك ما يجول في خاطري
_فقال: "ساعديني على نقل فرح إلى غرفتها وسأروي لكِ القصة بعد ذلك"
_فرح!! لا أظنها تحمل من اسمها ولو القليل..
بعد نقل فرح ذهبنا إلى غرفة استراحة الأطباء قال لي الدكتور في الطريق أنه كان يجدر بي أن أذهب فور وصولي إلى غرفة الأطباء وانتظر أحد أفراد الكادر الطبيّ ليصطحبني في جولة تعريفية عن المكان والمرضى.
جلسنا في الغرفة وقد قدّم لي كوبًا من القهوة،
ثم بدأ يروي لي القصة دون أن أسأله عن شيء
وكأنَّ القصة عبء على لسانه يودّ التخلص منه ليحتسي قهوته بسلام.
قال لي أن ما قاله لم يكن دعابة
_قال أن فرح كانت قد تزوّجت في سنٍ مبكرة
ولكنها لم تنجب لبضع سنوات فبدأت تزور
الأطباء وتُجري الفحوصات وتلجأ للزراعة والتقنيات الحديثة لعلّها تحمل في رحمها طفلها الأول لتُحلَّ به عُقدَ حياتها،
وفعلًا أكرمها الله بفتاة قيل أنها تضاهي القمر في جمالها، فأسمتها "لهفة" وذاك من لهفتها بقدومها،
وفي عمر التاسعة خرجت لهفة مع والدتها فرح إلى الحديقة وفقدتها هناك.
كنتُ أتفاعل مع قصته بفمٍ مغلق وعينين مشتتين.
_أكملَ هو بدوره: لا أعلم التفاصيل ولكن بعد التحريّات التي دامت بضعة أيام
وُجدت جثة لهفة وقد قيل أنها اختُطفت من قبل عصابةٍ لتجارة الأعضاء،
وسمعت أن من خطفها كانت مجموعة شبان مراهقين،
إلا أنّ التقارير الطبيّة تقول أنها اغتُصبت وعنِّفت قبل موتها
ولكن ما حرق قلب والدتها أنها لم تر عيني لهفة في محجرهما
هناك من اقتلعها ... كان مكانهما فارغًا
ومنذ ذلك الحين وفرح تبحث عن عينيّ ابنتها كلما أُتيحت لها الفرصة وكلما ذهب تأثير المخدر وكلما دخلتُ غرفتها.
أشعر في بعض الأحيان أنها تبحث عن عيني لهفة في عينيّ أنا.
قاطع صوتَ الدكتور صوتُ نداء غرفة الاستعلامات:
"حالة طارئة دكتور خالد توجه إلى الطابق
الأرضي حالًا" ليجري مسرعًا ويتركني وحدي في الغرفة
لم أجرؤ على الخروج، قلت في نفسي:
إن كان ما مررت به قبل قليل وضعٌ طبيعي
فكيف ستكون الحال الطارئة؟
لا بدّ أن أنتظر أحد أفراد الكادر الطبي ليصطحبني في جولة تعريفية كما قال الدكتور خالد،
وسأكتفي بالبحث عن عيني لهفة مع فرح كلما استطعت ذلك.
طال انتظاري والدكتور خالد لم يعد بعد..
تراودني فكرة أن أعودَ إلى ذاك الرِواق، إلى الطفل المنطفئ وعيني لهفة،
لكن هناك ما يشدني ويثبتني على المقعد.. أدركت حينها مدى ضعفي..
ما الذي يخيفني ولمَ لا أخرج من جديد؟!
كان حديثي مع نفسي أعلى من أصوات الصراخ والعراك التي أسمعها منذ أن أُعلنت الحال الطارئة.
نظرت من طرف الباب عندما بدأت
الأصوات تهدأ،
رأيت رجلًا ذا بنية قوية، عادت بي صورته إلى صوَر الفرسان الأشداء عريضِي المنكبين، أولئك الذين يدبّون الرعب في قلوب أعدائهم فقط عند رؤيتهم،
ولكن مع اختلاف بسيط!
نظرةُ هذا الرجل كانت توحي بمدى عجزه، على نقيض الفرسان.
كانت عيناه ذابلتين وكأنه يحمل عبء سكان الكرة الأرضية جميعهم،
يجرّه ممرضان يعملان في المشفى بصعوبة بالغة
وكأن قدماه قد شلت وقواه خارت ليصبح ثقله بثقل الأعباء التي يحملها، يبدو لي أنه عاد من معركة خاسرة بآمالٍ محطّمة.
لم أعلم إلى أين يأخذانه..
فتقدمت خطوةً عند عتبة الباب ليدفعني الدكتور خالد برفقٍ فيعيدني إلى الغرفة ويسألني
أشربتِ قهوتكِ؟
أجبته بسؤالٍ مباغت: من هذا الرجل؟ وما الحال الطارئة التي شغلتك طيلة هذا الوقت؟
هوى على مقعده كجبلٍ انهار بعد صمودٍ طويل
وبدأ بقوله تعبت يا شام،
الطابق الأول خُرِّب تمامًا سيحتاج إلى
إصلاحاتٍ كثيرة،
وسنحتاج إلى مكانٍ آخر ننقل إليه المرضى
لقد كان نهارًا طويلًا متعبًا، قاطعتُه لأعاود طرح السؤال من جديد
من هذا الرجل الذي كان يُسحب في الممرّ قبل قلييل
فأجاب:
أتصدقينني إن قلت لكِ لا أعرف عنه شيئًا؟
جيء به إلى هنا صباح الأمس.
وضعه سيئ جدًا لكنه بكامل قوّته وهذا يصعّب الأمر علينا جدًا
شعرتُ وكأنه لغز، لم أفهم ما قصده الدكتور وكان هذا باديًا على وجهي،
فقال: لا عليكِ ياشام..
سنساعده ما إن نشخّص مرضه تمامًا.
فسألته إن كان لهذا الرجل علاقةً بالعراك وما حدث بالطابق
الأول،
فضحك باستياء وقال: هذا الرجل هو العلاقة ذاتها.. هو من فعل كلّ هذا،
أتدركين أن هناك إصاباتٌ في كادرنا الطبيّ!
منهم من كُسرت ساقه ومنهم من تعرض لرضوض في مرفقَيه، وكلّ هذا دون سابق إنذار،
هذا الرجل يدعى درويش
كان جالسًا مع المرضى في الطابق الأول وكانوا يتحدثون كما العادة عن أمورهم، إلى أن انفجر فجأة وبدأت نوبة الصرع، بدأ يصيح بوجه كلّ من حاول تهدئته ويقول أنه سيحضر كنزة الصوف لابنته، وسيحضر اللحاف لأخيها، سيدفئهما ولن يدع البرد يأكل من جسديهما ثانيةً، ثم لم نعد نستطيع السيطرة عليه كان يردد هذه العبارات ويحطّم كل ما يقع أمامه حتى رجال الأمن.
_طُرق الباب فجأة فسكت الدكتور خالد.
كان القادم موظفًا يحمل ملف درويش ليطّلع الدكتور على حالته
بدأ الدكتور يقرأ ما ورد في الملف وغادر الموظف
كنت قد اكتفيت بالنظر إلى ملامحه تتبدّل أثناء قراءة الملف على أن يخبرني بعد ذلك ما كتب به، وكانت هذه أول مرة أرى بها الدكتور خالد رقيقًا متعاطفًا ومهتمًّا بما يحدث، شعرت أنه ليس الشخص نفسه الذي قابلته أول مرة في الممر
كانت دموعه تنهمرعلى وجنتيه دون أن يشعر،
أغلق الملف أغمض عينيه وقال
رحم الله أمل وأخاها، لقد رحلا إلى مكانٍ يشعران فيه
بالدفء والأمان وأعان درويش على ما وصل إليه حاله الآن؛
فهمتُ حرقة والدهما درويش وبحثه عن كنزة صوفية ولحاف!!
عُقد لساني حينها فلم أستطع أن أترحّم عليهما أنا أيضًا لكنني في أعماقي كنت أترحّم على حالنا! وحال درويش، لقد ارتاحت أمل وأخوها من عناء البحث عن الدفء ومواجهة
ليلٍ مثلجٍ دون لحاف،
ساد الصمت لبعض الوقت في الغرفة
نهض بعدها الدكتور خالد من مقعده وسحبني معه إلى خارج الغرفة ليرشدني إلى غرفتي
ضحكت كثيرًا ، وسألته باستنكار! أتظنّ أنه ليست لدي عائلة تقلق عليّ إن تأخرت! تريدني أن أنام هنا؟
لا لا سأغادر ما إن تنتهي ساعات العمل
عندها قال لي بلهجةٍ حانية ... عزيزتي الوقت تأخر وتستطيعين النوم هنا اليوم، هناك غرفةٌ فارغة
بيتك بعيدٌ عن هنا، لذا اتصلي بعائلتك وأخبريهم بهذا
فعلًا هذا صحيح، بيتي بعيد
اقتنعت بما قاله وذهبت معه ليرشدني إلى الغرفة، وكلّ ما كنت أفكرُ به في هذه الأثناء
كيف عرف عني الدكتور خالد كلّ هذه المعلومات؟
وصلنا إلى الغرفة
دخلت وعندما هممت لأغلق باب الغرفة سمعت صوت الدكتور خالد يلقي التحية على دكتور زميل له فاسترقت النظر من ثقب الباب ..
قال له: أهلًا دكتور حازم.
كنت بانتظارك اليوم، كان يومًا حافلًا حقًا
اقترب الدكتور حازم منه وسأله عن أحوال شام وأشار إلى باب غرفتي
أجابه الدكتور خالد، لن أخفيك... الأمر يزداد سوءاً، أوصلتها للتو إلى غرفتها ... إنها تعيش مع كل المرضى
أو على وجه الدقة تعيش أحداث المرضى تحلم معهم تتأثر بهم تحمل على عاتقها قصصهم،
لن تستطيع التحسن هنا!
لذا أقترح أن تنقل إلى مكانٍ هادئ وطبيعة خضراء لتستطيع جمع شتاتها بعيدًا عن قصص من تقابلهم هنا... ومعاناتهم
شام حساسة جدًا وما عاشته منذ بدء الأزمة لم يكن سهلًا،
وهي إلى اليوم تعيش حياة كل من تقابله وتتأثر بها، والمشكلة أنّ هذه الحرب لم تترك أحدًا دون أن تسقيه من مرّ كأسها! أخشى أنّ هذا المصح سيصبح للأصحاء بينما يعجّ البلد بالمرضى في كلّ أنحائه..
أكملا حديثهما وهما يعبران الممر إلى الطابق الأول
فلم أعد أسمع ما يقولانه، أضحكني ما قاله الدكتور خالد!! يصبح المصحّ
للأصحاء؟ أظنّ أن الدكتور خالد من أكثر المرضى اضطرابًا هنا!! لكنني أيضًا شعرت بالأسى على شام لا بدّ أنها كانت تسكن هذه الغرفة فقد أشار إلى
هنا،
كيف لها أن تعيش حياة غيرها ...فتغدو كمن لا حياة له؟!
بقلم رهف الزعير

0 تعليقات